المجتمعات التي تعيش تحت ظل الطغيان هي أردأ الشعوب أخلاقا، فالطغيان يقوم بعملية فرز عجيبة تشبه ما يحدث عند اختبار البيض بوضعه في الماء، إذ يرتفع الفاسد للأعلى ويغوص الصالح للقاع.
مع الزمن تتركز طبقة على السطح غاية في الرذالة وتبدأ بتشكيل المجتمع من خلال مكافأة أشباهها وحرث القيم الفاسدة وتشكيل الوعي العام بالقدوة السيئة.
معظم الناس يربط الطغيان بما نعيش حاليا من حكم دكتاتوري، لكن الحقيقة أن مجتمعنا في الماضي كان أشد استبدادا ويتخبط في الدماء والظلم والطبقية بدرجات تفوق بمرات ما نحن عليه الآن.
النفاق عادة متأصلة في مجتمعات "الطلبة" وأكبر بؤرة له هي رجال الكهنوت، فمعظمهم لا يرى فيه منقصة بل جلهم يجزم بوجوبه للأقوى "المتغلب" والخلافات بينهم غالبا حول من هو الأولى بالنفاق.
هذا ما نراه اليوم صراع أجنحتهم المختلفة، هذا ينافق لشيخ القبيلة وذاك للرئيس وآخر يترفع ويتأفف عن حكام البلد البخلاء، ويختص في الطغاة القادرين على الدفع بسخاء من أمراء أو رؤساء أجانب، بغض النظر عن اجرامهم أو تناقض تصرفاتهم مع ما يعظ به.
أما زعماء العربان فلم يعبهم يوما الظلم ولا اختطاف اللقمة من الضعيف وجني فادح الغرامات من المساكين وسفك الدماء.
فشل المشروع السياسي اليوم راجع بدرجة كبيرة لانتماء جل الطبقة السياسية لقمة مجتمعات الطغيان البدائية، أو تبني قيمها، أو على الأقل مهادنتها لمن ينتمون لمنابع فكرية مختلفة أو اصول من الطبقات المظلومة ، فمعظمهم تربى على تراتب اجتماعي ظالم يبيح استغلال الضعيف بأبشع الوسائل ويمجد الخرافة ويحتقر العمل، ويمنح البعض قداسة للبعض تجعلهم خارج المحاسبة و تأول كل رذالاتهم و تلبسها ثوب الفضيلة، و هو ما نرى أثره اليوم في تبرير نفاق مختلف رموز الكهنوت سواء المعارض أو الموالي لطغاة الداخل و الخارج، وجريمة تزكيتهم ومساندتهم للشيخ الرضى رغم فادح إجرامه في حق عشرات الآلاف من الأبرياء الذين بلعوا طُعم الولاية و النصرة النبوية و الشرف ، وسكوت الوجهاء وأصحاب الفكر و قادة الأحزاب رغم أن فيهم خبراء اقتصاد يعرفون حقيقة جرمه و يساريون يزعمون التنوير و إسلاميون يدعون ان هدفهم محاربة الخرافة و إصلاح العقائد و الانحياز للحق.
الحقيقة ان هؤلاء مشكلتهم مع الحكام تتلخص في الصراع على السلطة، و دعواتهم الفكرية مجرد مطية للوصول لكرسي الحكم.
هذا ما يفسر التقلبات المخجلة وتبخر المبدئية أمام اختبارات الوقائع والدنس الذي يطبع المشهد السياسي وتقبل المجتمع لجرائم الطبقة السياسية وتناقضاتها الصادمة و نجاح كل من يتربع على كرسي السلطة في إركاع المجتمع و هزيمة الطبقة السياسية.
في العالم الآخر تناقض واحد أو تصرف بسيط مما يمارسه سياسيونا كفيل بتدمير أي شخص أو حزب للأبد.
الملاحظ بالتجربة أن البسطاء ومن يكسبون لقمة عيشهم بالكدح وعرق الجبين أكثرهم تمسكا بالمبادئ ممن يقودون المجتمع.
لا يعني هذا بالضرورة ان كل من ينتمي للطبقات المسحوقة مبدئي بالضرورة، فالكثير من ضحايا المجتمع الظالم يتبنون قيم المنظومة الفاسدة ويتحولون إلى نتاج رديء يحمل القيم السائدة للطبقة المتغلبة، وليس كل المنتمين للطبقة العليا أنذال بالضرورة فالبشر قادر دوما على التمرد على الدور المحدد له ورفض المنظومة الفكرية التي صمم له المجتمع الإيمان بها.
المؤلم أن التعليم لم ينجح في إنتاج أجيال تخرجنا من هذا الدوامة، فالتعليم في هذا النوع من المجتمعات عبارة عن حشو العقول بزبدة التفاهة الفكرية والقيمية الخالية من العمق والمصممة لإنتاج أجيال خانعة للمستبد وراضية بقيم المجتمع الفاسدة، أو محشوة بالمتون الصفراء المليئة بترسبات الماضي البغيضة من طبقية وعبودية وخرافة لا يمكن ان تنتج سوى عاهات فكرية وأخلاقية.
هذا ما تكشف في الانحياز القبلي الأعمى و المنفلت من كل ضوابط المنطق لمهندسين و أطباء و سياسيين ونواب برلمانيين من أحزاب معارضة في قضية المريضة ضحية الخطأ الطبي من عدة أشهر.
المفارقة أن جل الأحزاب تقوم على قاعدة تجد فيها الكثير من المؤمنين الصادقين بقيم الخير، وإيمانهم هذا يجعلهم غير مستعدين للمنافسة من أجل المكاسب مما يشكل فرصة ذهبية للمنافقين والأفاقين للتسلق.
غياب المؤسسية داخل الأحزاب يؤدي الى تفاقم التزلف والمنافقون يوفرون للقيادات جرعات مكثفة من التملق تصور فشلهم المزمن كانتصارات وتحول خيباتهم لمحامد، فيتصاعد الغرور ويتفاقم تقديس الأفراد ويختفي الكل في أنا الزعيم المتضخمة فيصبح الحزب شخصا، والشخص حزبا.
واقعنا المرير ثمرة منظومتنا القيمية وبنيتنا الاجتماعية والفكرية، وإقصاء قمة الهرم والتمرد على قيمه البالية حاجة ضرورية للخروج من وحل الدرك الأسفل الذي نتخبط فيه، والبصاق في وجه حلف الكهنوت والزعامات القبلية و طغاة العسكر هوالخطوة الأولى في بناء مجتمع صالح. والممارسة الديمقراطية داخل أي مجموعة، سواء اكانت أسرة أو منظمة أو حزب أو حتى عصابة ضرورة لا مفر منها وبديلها الحتمي الفشل والتخبط.