الدكتور محمد فال الحسن: القول السقراطي في التناوب الديمقراطي

لا يجادل أحد في إجماع الناس في هذا البلد الطيب على مبدأ التناوب الديمقراطي حين صوتوا على تعديل الدستور سنة 2006، وعلى أنه غاية ووسيلة في ذاته لتحقيق التداول السلمي في هذه الأرض التي لم تحفظ لنا صناديقها الأرشيفية بعد الكثير من محاضر التسليم والتسلم للسلطة بين رؤسائها.

 

ولا ينكر أحد أن التمسك بذلك المبدأ أخذ يتضاءل عند طائفة من الناس مع اقتراب المأمورية الأخيرة أو (الثانية) لثاني رئيس منتخب في ظل التعديل المذكور من الانتهاء، وقد حاولت أن أنظر لك في المسألة نظرة سقراطيه، فقادني ذلك إلى أن تلك الطائفة على ثلاث فئات:

 

الفئة الأولى هم ثلة من المثقفين يؤمنون بأن التناوب ليس هدفا ولا وسيلة في الوضع الراهن للبلد، فهو مجرد فكرة طوباوية نبتت في أراض قوم من غير جنسنا، ولا يمكن استنباتها أرضنا لاختلاف السياقات التاريخية والفكرية والأخلاقية، ذلك أن هذا المبدأ جزء يصعب عزله عن المظاهر الحضارية الأخرى للتجربة التاريخية التي أفرزته، وإقحامه في النصوص الدستورية التي تحكم هذا البلد أشبه ما يكون بغرس نبتة الدوريان على رمال جامع ابن عباس. وهم لا يبوحون بما يكنون إلا في مجالسهم الخاصة، وأن الأولى هو تحقيق الأمن والاستقرار. وأغرب ما في أمر هؤلاء أنهم رغم نزعتهم التقدمية وتضلعهم من العلوم الإنسانية العصرية تنتهي أفكارهم إلى النقطة نفسها التي ينتهي إليها اجتهاد طبقة الفقهاء الأجلاء عندنا المحكومة بالتصورات الأشعرية للحاكمية، وبالتطبيقات الماوردية للسياسة.

 

الفئة الثانية: وهم قوم يدورون في فلك الحاكم، ويحاولون استكناه ما يدور في خلده، وينتظرون موقفه من مسألة التناوب، فإذا قرر أن يتخلى عن الحكم بانتهاء مدته رأيتهم يصفقون تحت خيمته متهللين يكاد نور البهجة في أعينهم يضيء ما بين انجاكو إلى عين بنتيلي، أما إذا أبدى رغبته في خلاف ذلك فتراهم يقودون المبادرات متأولين في ذلك تأويلات لا يفقهها إلا العالمون في شؤون السياسة.


احتارت هذه الفئة عندما سمعت الرئيس يصرح بأنه لن يتقدم للفترة رئاسية أخرى، وأن العبرة بالأفكار لا بالأشخاص، وأن النظام باق، وأن الدستور ليس نصا مقدسا، وأنه، أي فخامته، يستمع لكل الأصوات. ثم نظرت فإذا بالرئيس لم يصدر حتى الآن كتابا يتضمن نظريته لتسيير البلد وتنمية البلد وضمان استقراره، والوقت لم يعد كافيا لنشر الكتاب، على افتراض وجوده، ولا لإرسال الوفود لشرحه بين الناس في الولايات، ثم اجتهدت لتعرف ما المقصود بالنظام الذي سيبقى بعد ترك الرئيس لكرسيه، إذا حصل التناوب، فوجدت أن شخص الرئيس هو قطب الرحى، وأنه لا بقاء للنظام بعد زوال قطبه، وأن الرئيس القادم سيبنى لنفسها رحى جديدة، وسيجعل من نفسه قطبا لها، وفهمت في النهاية بحاسته السياسية المرهفة أنه أن هنالك فكرة وراء تلك التصريحات المختلفة يخفيها الرئيس بين جنباته، وراحت تتنافس في محاولة الكشف عنها، فذهب بعض أفرادها يبحث عن "صواع العزيز" وذهب آخرون يبحثون عن مفاتيح للدستور. أما الباحثون عن صواع العزيز فيؤمنون بأن لعزيز صواعا، وأنه أودع هذا الصواع عند بعض خاصته، وأن حامل هذا الصواع هو خليفته المنتظر، فتراهم "يحزِّرون ويفزِّرون"، ويتقربون، ويمجدون، معتمدين في ذلك أساليب بديعة لم يسبقوا إليها، وقد قيض لهم أقواما من الفئة الأولى ينقضون أطروحاتهم، ويسفهون تحليلاتهم. ولا يدرك هؤلاء الباحثون أن صواع عزيز على افتراض وجوده، فإن وقت تسليمه من "الناحية الدستورية" لم يحن بعد، كما أنه حامل الصواع، سيلغي العمل بهذا الصواع في ليلته الثانية بالقصر الرمادي ليتمكن من مباشرة صلاحيته الدستورية.


وقد كان الباحثون عن المفاتيح الدستورية أكثر وضوحا وشفافية، فهم أدركوا إلى أن استمرار النظام يقتضي بالضرورة بقاء الرئيس في منصبه، وأنه لا سبيل لذلك إلا بالتضحية، ولو إلى حين، بالتناوب الديمقراطي وإزاحة العقبة الموجودة عند المادة 28 التي تنص على التجديد له مرة واحدة، وبما أن فخامته كان قد أقسم ألا يسعى بأي شكل في إزاحة تلك العقبة، فبادروا من أنفسهم، على ما يبدو، بالبحث عن مفاتيح للدستور لاستبقاء مقاليد الحكم بيد الرئيس دون الإخلال بيمينه المنعقدة على حنث أمام الشعب. فتحرك نوابهم في الغرفة اليتيمة، وجمعوا تواقيعهم لاقتراح التعديل المطلوب. ثم ما لبثوا أن صدر من الرئاسة بيان بشأنهم، وجاء فيه أن سعيهم مشكور، وأن المساس بالمحصنات من المواد مرفوض، وأن من كان يريد التمسك بالرئيس، فليجعل من نهجه في تسيير الشأن العام مرجعية أولى للدولة....، ومنهم من استسلم وانحاز إلى فئة الباحثين عن الصواع، ومنهم من بدأ يفكر في مبادرة أخرى لا تمس المحصنات من المواد، وتحول دون اكتمال عملية التناوب، وانتقال السلطة، ولا تزال طائفة منهم تحاول فك طلاسم بيان الرئاسة؟ وتتساءل هل صدر البيان فعلا من الرئاسة؟

 

الفئة الثالثة وهم أفراد من "المثقفين الدستوريين" يعتقدون أن للدستور نصا وروحا، ولا يدرك كنه العلاقة بينهما إلا الراسخون في القانون الدستوري والمؤسسات السياسية، وأن لكل مشكلة دستورية حلا من جنسها ولو أدى ذلك الحل إلى مشكل آخر من شكله، وأن الخوض في كل ذلك مضنون به على غير أهله، ومع ذلك فهم لا يفتأون يبوحون بذلك على رؤوس الأشهاد.

 

وإلى جانب تلك الفئات، ما يزال هنالك أولو بقية من الناس يؤمنون بمبدأ التناوب الديمقراطي، ويزدادون تمسكا به كلما اقترب موعده، ولكن ليس لديهم أي وسيلة دستورية للدفاع عن هذا المبدأ الدستوري عند المساس به، فالرئيس نفسه هو الحامي للدستور والضامن لحسن سير المؤسسات، والرقيب عليه في ذلك رئيس المجلس الدستوري الذي اجتباه الرئيس نفسه وعينه، وجعل منه الدستور ولي ولي عهده عند الشغور، ولا سبيل للجوء إلى الجيش لإرجاع الأمور إلى نصابها الدستوري عند الانسداد، فقد بات ذلك من المحرمات الدستورية.

 

ولعل أغرب ما يثير الحيرة والدهشة في أمر هؤلاء وأولئك رغم اختلافهم البين في شأن التمسك بمبدأ التناوب، أنهم يدعون حب الوطن، والتمسك بمكتسباته، والسعي إلى نشر المحبة والمودة بين الناس ونبذ الكراهية، وتحقيق "المصلحة العامة"، كل على شاكلته. والله يعلم المفسد من المصلح.

ثلاثاء, 22/01/2019 - 12:32

          ​