الفتوة العصرية ..بين الانسلاخ من الماضي أوالغياب عن العولمة

أخذت كلمة الفتوة جملة من المنحنيات التاريخية والدلالية وفق مختلف العصور الماضية، تأرجحت خلالها بين كمال صفات الرجل الخلقية والمعرفية وفق المعايير التي يحددها المجتمع، وقد انطبعت كل فتوة بالمتغيرات الثقافية والأدبية والفكاهية الشائعة في العصر.
حيث يرجع تاريخ هذا المصطلح إلى العصر الجاهلى، ففي موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة، فقد تغنى شعراء الجاهلية بالفتوة، مثل طرفة بن العبد في قوله
:
ولولا ثلاث هن من لذة الفتى * وجدك لم أحفل متى قام عودي
وكانوا يعنون بها طائفة من الأخلاق تجتمع فيمن يسمى بالفتى، مثل
: الكرم والشجاعة والفروسية والنجدة، إضافة إلى أخلاق سلبية، مثل اللهو ومعاقرة الخمر وما إليها
..
ويشتبه مصطلح "الفتوة" بمصطلح "المروءة" من حيث المعنى، وإن كانت الأولى تطلق على الشباب بينما تطلق الثانية على المكتملين من الرجال، وبعض الباحثين يرى أنَّ معنى الفتوة أعم من معنى المروءة، وبعضهم يقول: إنهما لفظان مترادفان
.
ولمِّا جاء الإسلام أقر كثيرا من أخلاق الفتوة الجاهلية، ولكن بعدما هذّبها وحوّلها من فضائل فردية أو قبلية إلى أخلاق دينية تطلب من أفراد المجتمع الجديد، ولغايات أسمى من غايات المجتمع الجاهلى.
وحين نعود إلى الحياة الموريتانية الأصيلة في المجتمع البدوي نجد صفة جديدة للفتوة هي أقرب للموسوعية، وتطلق على مستوى معرفي وثقافي رفيع يجمع صاحبه بين انتاج الأدب الفصيح والحساني ويتقن معرفة سلم الموسيقى ويعرف تفاصيل "اتيدنيت" وله إلمام بكل فن من فنون وعلوم العصر وله معرفة باللغة والفقه والنحو والحساب وله قدرة على الابداع في الترف والألعاب السائدة في المجتمع وله مسكة بالموروث الثقافي وتاريخ عيون المجتمع ويتقن لغة المستعمر ، فكان يصدق عليها قول الجاحظ هي : الأخذ من كل شيء بطرف
.
أما الفتوة العصرية والتي انطبعت بخصائص العصر عصر السرعة وطغيان النظرة المادية والتأثر بالغرب وسيطرة الثورة التكنلوجية على علاقات الناس في مجتمع اليوم، فقد أخذت صفة "الفتوة" مسافة من المنحى المعرفي والثقافي السائد في تاريخ الكلمة إلى مظاهر شكلية لا تشترط مستوى كبيرا من المعرفة والثقافة، وأصبحت الفتوة العصرية عبارة عن ازدواجية في الشخصية تتشكل من صراع عدة أبعاد معرفية وثقافية، وتجمع بين عدة ما تمليها متغيرات العاليمة من موضة ولباس وأكل ومظهر وطريقة كلام وفق معايير ذوقية خارج عن مدار الانسان نفسه وعن محيطه، وقد نشأت هذه الفتوة العصرية في أفق حضاري يؤمن بالتخصص ويفتقد لمرجعيات وقدوة تستطيع الجمع بين عدة أبعاد متنافرة في شخصية تسكن العالمية في مجاراة بني جلدتها، وتعيش ماضيها في حياتها الخاصة، ما جعل مثقف اليوم يتذبذب في مساره الثقافي بين الاصرار على الوفاء لماضيه والاستجابة لنداء المجتمع الضيق ومسايرة ركبه، وبين الولوج لباب العالمية عن طريق الانسلاخ من الجلد الداخلي الذي تشكل من الجغرافيا والتاريخ والثقافة الأصلية في مجتمعه الأول.
ديدي نجيب

جمعة, 08/03/2019 - 09:15

          ​