لن أشتري القميص/ الشيخ نوح

حين تساءلنا في مناسبة سابقة عن مصير المليار أوقية الذي تم جمعه قبل سنتين لصالح المنتخب الوطني لم نتلق أي رد، وحين طالبنا بالتبرع لآلاف الفقراء والجوعى والمقيمين في الأرصفة لم يستجب لنا أحد، لذلك عندما أعلنوا التبرع للمرة الثانية للمنتخب الوطني كتبنا بكل صراحة وصدمة “انا لن أتبرع”.. والآن “لن أشتري القميص”.

رئيس الاتحادية الموريتانية لكرة القدم في مناسبات ظهوره الإعلامي يبدو شخصا منفصما عن الواقع، ويتحدث من موقع أرستقراطي وأستاذي يقترب من السادية، خاصة حين يذكر الفقر والفقراء في حضوره، وكأن الذين يتسلق الجميع على عواتقهم ويستجدون الناس باسمهم، ويطلبون الصدقات نيابة عنهم ليسوا أنباء الهامش الذين يحققون المجد لموريتانيا ويعطونها التاريخ بينما تعطيهم الشيخوخة والاستنزاف والاحتقار والاستهزاء بأهاليهم وذويهم.

على هؤلاء الذين استثروا من عرقنا ومن كدحنا وأكلوا الكافيار من ريع دمائنا أن يتواضعوا قليلا، وأن ينظروا قليلا في مرآة الواقع الخارجي وليس إلى بحيرة نرسيس الوهمية في داخلهم، عليهم أن يتعودوا أن الشعب هو الأصل وهو الباقي، وأن بحبوحة النعيم التي يعيشونها وقمصان لاكوست الأصلية وعطور شانيل وسوفاج الأصلية وزكية الرائحة، وسيارات الرانج روفر، إنما هي حصيلة كد وكدح هذا الشعب الذي ولاهم هذه المسؤوليات، ليس لأنه من سلالة منزهة كما يتوهمون، بل لأنه وثق فيهم وأحيانا لأنه خدع فيهم، وعليهم أن لا يستغلوا ثقته وطيبوبته المبالغ فيها، لأنهم حين يمعنون النظر سيجدون أنهم عراة في ملابسهم.

منتخب ما زال يعيش على التبرعات، ورئيس اتحادية تتلقى الصدقات، ومع ذلك يقول ما معناه إن الفقراء ليسوا معنيين بالقميص الجديد للمنتخب الوطني، يقول بالحرف والفاصلة “إن شراء القميص ليس إجباريا”، فأي رئيس اتحادية هذا..؟ وماذا لو أنه سبق وأن فاز المنتخب بكأس العالم أو كأس أمم أفريقيا أو كأس أكاميكال كابرال في عهده؟.. ماذا كان سيفعل؟

يجب على من يتولى الشأن العام أن يعلم أنه ليس شأنا عائليا ولا منزليا ولا قبليا، فمن يريد أن يتصرف على هذا النحو فالأجدر أن يعمل في القطاع الخاص، أو أن يتصرف في ممتلكات أبيه.

في مناسبة سابقة نقل عن رئيس اتحادية كرة القدم الموريتانية أحمد ولد يحيى إنه قال “إن من لا يملك 5000 أوقية من أجل تذكرة الدخول لمتابعة المباراة، فعليه أن لا يأتي إلى الملعب، حتى لا يسقط هناك مغشيا عليك”، وكأن الملعب ملكه الخاص، في انطلاق صادم من عقلية طبقية بورجوازية فوقية، يبدو أنها تشحذ كل الذين يتولون الشأن العام ثم في لحظة من اللحظات يشعرون بوهم القوة، ولا شك أن غياب النقد الجاد، وندرة روح النقد والمساءلة فاقم هذه النماذج من المسؤولين الاستعلائيين والذين يلقون الكلام على عواهنه ويجرحون الناس بالمجان ودون حساب، لأنهم أبناء البلد المدللون.

أفضل أن أدفع 12000 أوقية ثمن قميص المرابطون الجديد لامراة تبيع “اتشاف” على الشارع أو لبائعة نعناع، أو لمريض في المستشفى على أن أشتري بها قميصا لن يصل ثمنه للاعبين أبدا، بل سيساهم في وهم القوة لدى أصحاب النفوذ والسيارات الفارهة، بينما اللاعبون الموريتانيون هم أتعس وأفقر اللاعبين في العالم.

مع ذلك يقول رئيس الاتحادية إنه يجب على الفقراء أن يصبحوا أغنياء، في تقجيري أن مسؤولا مثل هؤلاء بحاجة إلى تكوين على نظرية التواصل، وكيفية التعامل مع الإعلام والشأن العام، ولوازم الخروج على الجماهير ومخاطبة الحشود.


قبل شهر تقريبا وأنا قادم من مقر التحالف الشعبي التقدمي بعد مقابلة مع أحد أطره، فجأة إذا بأحدهم ينادي علي.

نظرت فإذا برجل طويل القامة مملتئ بنظارات شمسية سوداء، وله لحية كثيفة يبتسم قادما في اتجاهي، حييته، وهو يناديني باسمي. لم أعرفه وقد فهم ذلك، ولكن ما إن وصلني حتى ارتمي في أحضاني، فاستغربت من هذه الحميمية من هذا الشخص المجهول.

أنا “فلان” قال لي.. نعم فلان الذي درس معك في الإعدادية قبل أكثر من عشرين عاما. لقد تغير الرجل كثيرا وبدا لي خميسنيا، هذا الشاب الذي كان مرة حارسا للمنتخب الوطني، والذي خطفته الرياضة من الدراسة، وجد نفسه الآن حارسا ليليا في إحدى شركات الأمن، بعد أن تم استنفاد كل قوته لفظوه بدون رحمة، وتحدث لي بعينين حزينتين وصوت يكاد يختنق مع نبرة تسليم واستسلام تام للعجز وللواقع عن قصته وغصته، ولكني حين عرضت عليك الكتابة عن قصته بالاسم رفض.

إنه يفضل أن يعاني في صمت. إنه كأحد أبناء الهامش الذين تعودوا أن يمتص الوطن دماءهم ثم يركنهم في الشارع لا يريد الاحتجاج.

وهل أتاكم نبأ المشجع الأقدم اتشارتشورا؟..

أنا لن أشتري القميص حتى لو كان قميص يوسف، فما بالك وهو قميص عثمان يتباكى الكل عليه ولا أحد مستعد للتضحية من أجله؟!


خلاصة القول “إن الذئب ليس سوى مجموعة من الخراف المهضومة” كما يقول المثل الفرنسي.

خميس, 23/05/2019 - 13:56

          ​