آخر حوار مع الفيلسوف ميشيل سير: الضحك انفجار الحياة

أدلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل سير قبل رحيله في يونيو الفائت بحوار إلى نيكولا تريونغ من "لوموند" في أبريل الفائت، وكان بمثابة آخر حوار معه.
هنا ترجمة للحوار:
 

(*) ماذا كشف الإحساس الذي اخترق فرنسا بعد حريق كنيسة نوتردام؟ كيف تفكر في هذا الحدث؟
لقد أقمت في الولايات المتحدة طيلة سبعة وأربعين عاماً، وكنت حاضراً فوق أرض أميركا أثناء وقوع هجوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001. إن الهجوم ليس حادثاً، وحريق كنيسة نوتردام لا يُقارن بـ11 سبتمبر: لم نحزن على موت أي شخص. لكننا نهتم بصدى وأيضاً برمزية هذه الأحداث. البرجان التوأمان في نيويورك يرمزان إلى القوة الأميركية الدائمة، المؤسّسة على القوة العسكرية والدولار. وهذا الهجوم كان على نرجسية الولايات المتحدة وهيمنتها على الكرة الأرضية. ومع حريق نوتردام، على العكس، عاد وعينا فجأة إلى قوة روحية دامت آلاف السنين. نحن، في حالة أولى، أمام قوة زمنية، هي مثل كل القوى في هذا الكون، تسقط في وقت وجيز؛ وفي الحالة الثانية، نحن أمام قوة روحية تصمد أمام سقوط السلطة الزمنية. هذا هو اللغز الذي يصدمني ويسائلني.

(*) ورغم ذلك لم يتوقف الفلاسفة، والمؤرخون، وعلماء الاجتماع عن تحليل العلمانية، والخروج من الدين، أو نزع صفة المسيحية عن الغرب...
إن هذه السلطة الروحية هي من وجهة نظر المؤرخين مبنية على حكايات، وقصص، وخرافات، ووجود مؤسسي الديانات لم يكن دوماً ثابتاً. إنهم ظلوا يرددون أن هذا الأمر كان عبارة عن لا شيء. وكلما قالوا بهذا الـ"لا شيء"، كلما أجبت: لكن، كيف دام ذلك منذ آلاف السنين؟ إننا نشعر بالزمن عبر قوى تختفي، مثل أطياف، مثل طبقات يتمّ تصفّحها. هذه المدة الزمنية الرائعة، التي لا علاقة لها بالسيف ولا بالدولار، هي الأكثر عمقاً. المسيحية، اليهودية، الكونفوشيوسية، أو البوذية ديانات تفقد رغم كل شيء: علمانية المجتمع، انقراض الأوفياء،

"السلطة الروحية هي من وجهة نظر المؤرخين مبنية على حكايات، وقصص، وخرافات، ووجود مؤسسي الديانات لم يكن دوماً ثابتاً. إنهم ظلوا يرددون أن هذا الأمر كان عبارة عن لا شيء. وكلما قالوا بهذا الـ"لا شيء"، كلما أجبت: لكن، كيف دام ذلك منذ آلاف السنين؟"

صعود الفردانية والنزعة الاقتصادية. إن الأمر يتعلق بحقيقة عابرة للتاريخ. أريد، إذن، أن أؤكّد على استمرار ذكرياتنا عن طريق أشياء ليست موثّقة. لأن هذا هو الأمر الروحي. قيل إنه مع نوتردام أصيبت باريس في القلب. لكن لماذا قلب باريس، وليس قوس النصر أو نصب الكونكورد؟ لأن الحروب والغزوات والحكام عابرون لكن الروحي يبقى. لهذه الأسباب أيقظ هذا الحريق في داخلي عمقاً تاريخياً ووجودياً خارقاً. كما لو أن قنبلة انفجرت منذ آلاف السنين وما زالت نتائجها سارية إلى اليوم. لهذا السبب جمع هذا الحدث من حوله الناس الذين يعتنقون الديانات أو لا يعتنقون.

(*) هل تمّ نسيان الجذور المسيحية لأوروبا؟

 الذين يتصارعون حول هذه القضية يتعاركون دون فائدة. لم تكن أي فائدة من هذا النقاش. أنا مؤرخ علوم. إن الابتكارات، صدقني، هي شيء آخر غير هذا النقاش.

(*) ألا يضطر الفيلسوف إلى الخوض في المعمعة؟
كلما قلّ انغماسنا في القرن الذي نعيش فيه، كلما كنا داخله. لكن الفيلسوف ليس منعزلا في برجه العاجي كما أنه لا يعيش خارج زمنه. لم ألتزم يوماً بحزب سياسي، ولا أبالي بالنقاش العام. ورغم ذلك، بين 1968 و1980 كتبت سلسلة "هرمس" كي أفكر في عالم التواصل. في سنة 1990 وضعت نظرية "العقد الطبيعي" قبل الوعي المتزايد بهذه القضية القانونية والبيئية. لقد عشت كل الثورات العلمية، وكان عليّ أن أكتب "بيتيت بوسيت" عشر سنوات قبل ظهورها سنة 2012، لكن كان سيُساء فهمي. وفي سنة 1992 ابتكرت، رفقة ميشيل أوقيي، مشروعاً أولياً، فريقاً، سيتحول إلى مشاريع أخرى، ساهمت أيضاً في مراجعة "قوائم مظالم" هذا النقاش الكبير، انطلاقاً من "أشجار المعرفة".

(*) ما هو دور الفلاسفة؟
نحن نشتغل بالعموميات. إن العملة الأولى للفيلسوف هي المرور من كل شيء. الفلسفة هي الموسوعة. ليست الفلسفة هي التعليق الخالد أو النقاش الدائم.

(*) هل انطلاقاً من هذا التصور للفلسفة تتطرقون اليوم للأخلاق؟
نعم، لقد أردت هنا مرة أخرى العثور من جديد على تقليد دام آلاف السنين. لست أنا من اختلق العملة اللاتينية: "قُم بتحسين الأخلاق وأنت تضحك"، بل "الكوميديا ديلّارتي" وموليير. عندما تشاهد مسرحية "كاره البشر" لن ترغب أبداً في أن تكون عابساً، وحين تشاهد "المرائي"، تتولّد داخلك رغبة في السخرية من النفاق، وأيضاً القضاء عليه. إن الطريق الأكثر كفاءة،

"عندما تشاهد مسرحية "كاره البشر" لن ترغب أبداً في أن تكون عابساً، وحين تشاهد "المرائي"، تتولّد داخلك رغبة في السخرية من النفاق، وأيضاً القضاء عليه"

طريق الملك، لإعطاء دروس في الأخلاق، هي بكل مفارقة طريق الضحك. الضحك هو انفجار الحياة. أنظر: العجزة عابسون والأطفال ينفجرون بالضحك. الضحك علامة على الولادة، الشباب، والنهضة.

(*) كتابك مليء بالذكريات والمرح والألاعيب... هل الاخلاق هي سخرية أيضاً؟
الضحك هو في كل الحالات مؤشر على الصحّة الجيدة. أردت أن أستحضر بعض الأمثلة من حياتي، تعطي نظرة حيادية عن البناء الأخلاقي. "الكلبيون" الذين نتذكّر دوماً قولهم الشهير "انسحب من شمسي" الذي أطلقه ديوجين وألكسندر لوغران كانوا يمارسون السياسة. في حين كان بلوت أو تيرانس يمارسون الضحك الخالص. كان أرسطوفان أيضاً رائعاً بتفضيله للضحك الشرس. لكن احذر، يمكن أن تموت من الضحك. اليوم يسخر الناس، في وسائل التواصل الاجتماعي، بعنف بحيث ينبغي اختيار طريقة الضحك. الضحك يدوم وينتقد ويقوّض، الضحك الهادئ يمحو ويُزيح. الإيذاء ليس هو الإعدام التعسفي.

(*) هل يمكنك أن تعطينا أمثلة عن هذه الأخلاق الخبيثة؟
في فترة تحرير المستعمرات، أصبح العديد من منتخبي وأعضاء برلمانات المستعمرات القديمة رؤساء لبلدهم الأصلي، والعديد منهم كانوا يزورون الجنرال ديغول. وهكذا قام طالبان في المدرسة العليا، متخصصان في العلوم الطبيعية، بتسميم حارس حديقة النباتات، ثم قاما بنقل زرافة على متن شاحنة بسقف مفتوح والتحقت سرّاً بلجنة رسمية، ادّعت أن الأمر يتعلّق بهدية من البلاد إلى فرنسا الخالدة. وحين دخلت الزرافة دخول المنتصر في ساحة الإليزيه، وبدأت في إزعاج البروتوكول، نادى ديغول على بومبيدو الذي فهم بسرعة مصدر الخدعة، فاتصل هاتفياً وهو غاضب بجان هيبوليت، مدير المدرسة العليا. فطلب مني هذا الأخير الحضور إلى

"لن أستطيع أبداً أن أعيد لأساتذتي السعادة التي غمرتني حين كنت أتعلّم اليونانية واللاتينية، لكن سأعيدها لطلبتي، نعم. هكذا ينبغي الانتقال من التبادل إلى العبور"

مكتبه ففكرنا ليس في معاقبة الطالبين، بل بمنحهم وسام الشرف. لماذا كان هذا الأمر عظيماً؟ لأن إدخال زرافة إلى مكان يوجد فيه الوزراء هي ألعوبة توضح التنظيم الاجتماعي، ولا أهمية وتفاهة التراتبية. يعمل الضحك على رؤية مصائر السلطة، المبنية غالباً على صورة الشر المهيمن الذي يتباهى رفقة نساء يجعلهن تحت سلطته ورغبته. يسمح الضحك بالشعور بأن الأمر يتعلّق بكابوس يمكن التخلص منه. هناك ذكرى أخرى: بعض طلبة المدرسة العليا جلبوا شريطاً من إحدى الورشات كُتب عليه: "إعادة فتح مصنع المداخن" وعلّقوه على باب المدرسة. كان الأمر رائعاً جدّاً.

(*) أنت تتطرّق إلى العديد من القضايا الأخلاقية. ما هو خلق العطاء عندك؟
قضايا العطاء لا يمكن حلّها طالما لم نتجاوز سؤال العطاء المتبادل. تقرضني مالاً، وإذا أرجعته لك لا مشكلة في الأمر. إذا أعطيته لي فأنا رهن إشارتك. إنها هدية مسمومة، كما يُقال. من المستحيل ردّ العطاء. لن أعيد أبداً لوالديّ ما منحاني إياه، إذن سأحاول أن أعيده لأبنائي. لن أستطيع أبداً أن أعيد لأساتذتي السعادة التي غمرتني حين كنت أتعلّم اليونانية واللاتينية، لكن سأعيدها لطلبتي، نعم. هكذا ينبغي الانتقال من التبادل إلى العبور. 

ترجمة: محمود عبد الغني.

أربعاء, 03/07/2019 - 11:59

          ​