تعتبر الدولة أكبر مشغل اليوم ، و هذه نتيجة حتمية لهشاشة الإقتصاد عامة و ضعف القطاع الخاص بصفة خاصة. و لعل الكل يدرك أن أي إصلاح لن يعطي النتيجة المرجوة إلا في ظل وجود إدارة قوية تتمتع بالكفاءة و الإخلاص و التفاني. مواصفات لا يمكن توفرها في الوقت الحالي نظرا لعوامل تشكلها و تراكمات الفساد المستشري منذ الأزل. فساد طغى على كل مراحل ذلك التشكل.
الإكتتاب :
استمرت الدولة في الإكتتاب بشكل فوضوي و عشوائي طيلة الفترة الماضية، فلم تراعي غالبا في ذلك الحاجة و لم تتبع مسطرة شفافة و لم تعتمد معايير موضوعية تضمن اختيار الأفضل و تحترم أحقية الجميع في الولوج إلى الوظيفة العمومية كمواطنين متساوي الحقوق. ولدت هذه الحالة فوضوية غير مسبوقة في الإدارة العمومية و في المؤسسات المنضوية تحت وصايتها و أثرت سلبا على أدائها و شكلت سدا أمام الكفاءات الحقيقية و هبطت بها إلى مستوى من التدني حكم على كل محاولة إصلاح بالفشل نظرا لندرة أو حتى انعدام الكفاءات القادرة على القيام بذلك. إن اعتماد الزبونية و المحسوبية في الإكتتاب و الإكتفاء بالقرابة كمعيار وحيد هو أخطر أنواع الفساد الذي مارسته الأجيال المتلاحقة لأنه يحكم على المنظومة جمعاء بالركود الأبدي و يحول دون قيام الدولة بدورها كأهم فاعل في المنظومة العامة. لقد خلف هذا الإرث طبقة من الموظفين عاجزة عن العطاء و غير مؤهلة لتطوير نفسها و أدخلنا في حلقة مفرغة يصعب التعامل معها دون اللجوء إلى إجراءات صارمة و مؤلمة ضرورة و مكلفة حتما.
الغبن الممنهج :
هذا بالإضافة إلى الإحساس بالغبن الذي يحدثه الفارق في الأداء و المساوات في الدخل إذ غالبا ما تعتمد كل إدارة على عدد قليل من الأشخاص يتحملون كامل العبء في الوقت الذي تشمل قائمة الموظفين فيها العشرات ممن لا يكلفون أنفسهم عناء الحضور متعللين بعدم الحاجة إلى خدماتهم بل و عدم استطاعة مباني إداراتهم احتواءهم أصلا. يتجاوز الغبن ذلك ليظهر في أغرب تجلياته في الفوارق في الرواتب إذ يتجاوز الدخل الإجمالي لموظف في وزارة المالية مثلا أقرانه في باقي القطاعات بل قد يتجاوز دخل رئيس مصلحة فيها ما يتقاضاه مدير في قطاع آخر و قد تجد موظفين يؤديان نفس الخدمة و في نفس الوقت يتقاضيان رواتب متباينة تباينا غريبا. و من أغرب الحالات في هذا المجال موظف في مؤسسة عمومية راتبه قد يصل أضعاف راتب مدير القطاع الوصي على مؤسسته. يعود هذا الوضع إلى الفوضوية في صياغة النصوص المحددة للعلاوات و عدم انسجامها مع النصوص المنظمة للوظيفة العمومية. زد على ذلك الهوة السحيقة في نفس المؤسسة بين أعلى دخل ، الذي قد يصل ثلاثة ملايين و أدنى راتب الذي قد لا يتجاوز الخمسين الفا. فوضى عارمة تخلق جوا من الغبن يصعب معة انتظار أية مردودية من هؤلاء الموظفين.
الترقية و التعيين :
لا تخضع الترقية و لا التعيين إلى أي معيار موضوعي يضمن ولوج الأفضل إلى مراكز القرار و مراتب النفوذ. يعتمد أساسا في ذلك على المحسوبية و الزبوتية و الولاء الشخصي. لم يعد مثار استغراب أن تجد أحدهم يتسلق السلم الإداري بسرعة مخيفة دون أن تجد تبريرا منطقيا لذلك و دون أن تجد حتى من يرى في ذلك غضاضة فأصبحت الوظيفة مهما علت و الرتبة مهما سمت في متناول أي شخص مهما كانت مؤهلاته. الشرط الأهم أن يكون قابلا للتوجيه غير قادر على المبادرة. تم بذلك تمييع الوظائف و تسطيح المسؤوليات و أفرغت من جوهرها الطبيعي. أصبح الموظف مرهونا و مدينا لمن كان خلف ترقيته و تحول بذلك من خادم للوطن إلى عامل لدى شخص يوجهه حيث شاء و يستغله متى أراد. قد تكون هذه الحالة هي المحرك الأساس لظاهرة التملق و التزلف التي تفشت مؤخرا خصوصا بين الموظفين العموميين.
الفساد الأكبر :
ولّد هذا التخبط حالة غير مسبوقة من التدافع على الوظائف السامية و نظرا للسهولة النسبية للمعايير المحددة للترقي وجد القائمون على الإدارة أنفسهم أمام جيوش من المواطنين يصعب التمايز بينهم نظرا لتطابق “الأدوار” التي يقومون بها و الوسائل التي يستخدمونها ، يطمحون جميعا لأرقى الوظائف المتاحة ، فتم استحداث آلاف الوظائف العالية الدخل الفارغة المسؤولية. عشرات المديرين المساعدين لا دور لهم يذكر و أمثالهم من رؤساء مجالس الإدارة يجتمعون مرة واحدة في السنة و مئات المستشارين و أمثالهم من المكلفين بمهام يكلفون الخزينة مئات الملايين دون أي مقابل يذكر. فإن تقبلنا على مضض عدد الوزراء المبالغ فيه في دولة فقيرة فكيف لنا أن نقبل عدد مستشاري الرئيس و المكلفين بمهام في ديوانه و مستشاري الوزير الأول و المكلفين بمهام في ديوانه الذي تجاوز الخمسين و لكل وزير و مدير مؤسسة مستشارون و حاشية بكلفة عالية دون أي دور محدد . بعضهم لا يحضر أصلا و أكثرهم لا يملك مكتبا يعالج فيه ملفاته إن وجدت أصلا.
المردودية و الأداء :
ليس من المنصف و لا من الموضوعي مطالبة موظفين تم اكتتابهم في الظروف التي ذكرنا و تتم ترقيتهم وفق المعايير التي أوردنا بمردودية و لا بأداء إيجابي. لا شيء يربط الأداء بالترقية، لا نصوص تحدده و لا إجراءات ترسمه و لا أحد يريده أصلا لأنه و بكل بساطة يحشر المسؤولين قي زاوية ضيقة و يحد من صلاحياتهم و يعطي بالتالي للموظف هامش حرية قد ينقلب على من يريد له أن يظل رهنا لولاءات شخصية ضيقة. نتجت ذلك حالة من التخبط و تدافع للمسؤولية عند ملاحظة أي خطأ. حالة لا يمكن معها انتظار تحسن في الخدمة العمومية و لا تطور في نوعيتها.
لا شك أن أي إصلاح لن يتأتى إلا في ظل وجود إدارة قوية ذات كفاءة عالية و لا شك كذلك أن أي إصلاح للإدارة لا بد أن يبدأ بالقضاء على مخلفات هذه الظواهر لكن في المقابل لا شك أيضا أنها عملية في غاية الصعوبة و باهظة التكلفة لكنها غير مستحيلة. يكفي أن تتوفر القناعة بضرورتها و الإرادة الصادقة و الإستعداد لبذل ما يلزم كي تتحقق.
أ. مولاي كواد