بعيد صلاة المغرب من يوم قائظ لطيف الغروب، اقتربت من شاب عشريني يبيع رصيد الهواتف في واجهة أحد مقاهي انواكشوط.
ومن عادتي -حسب مزاج الجيب- أن أشترك في تلك الليلة من كل شهر في شبكات الانترنت الثلاث المتاحة في انواكشوط علّي وعساي أتقفى الأثر الصحيح لأثير الشبكة العنكبوتية الشحيح.
طلبت منه بطاقة شحن بعشرة آلاف أوقية قديمة تكفيني لشهر، ونطقت له الرقم بالفرنسية، ظانا منه أنه من إخوتنا غير الحسانوفونيين، وتلك طامة توصيلية أخرى في العلاقة الألسنية بين مكونات مجتمعنا ؛ فأعطاني بطاقة شحن بقيمة ألفي أوقية جديدة. كشطتها وأدخلت رمزها دون أن أنظر مقلوبها، فتبينت أنني أو أنه غلط. وانتبهنا كلينا للأمر وكان تصحيحه يتطلب تعديلا في الميزانية بدل اللوم واخترت الخط الأول بدل الثاني ، وكان الرجل باهتا يريد أن يعتذر لكن ضوضاء السيارات العابرة حوالينا، منعتني من أن أتبين ما أبان أو حاول أن يبين.
تركت تلك الشريحة بما حصل فيها من زيادة واتجهت إلى الأخرى وطالبته هذه المرة بتحويل مبلغ اثنتي عشرة ألف أوقية قديمة ودفعت له المبلغ كاملا ليطمئن على عدم مباغتتي إياه بالانصراف؛ فحول -خطأ طبعا- مبلغ مائة وعشرين أوقية قديمة( 12جديدة) ونسي الأصفار الثلاثة المتبقية التي ستكون معبرا عنها في خدمة التحويل المتأقلمة حديثا مع بيانات البنك المركزي الأخيرة ب 1200 جديدة .
كنت عند كل تحويلة أدفع له مسبقا . ليطمئن قلب التاجر الشاب وهكذا انصرفت عنه لا طالب ولا مطلوب بيننا؛ بعد معاملة دامت حوالي عشر دقائق.
على تمام الساعة الحادي عشرة من مساء نفس اليوم ألح علي عبر الهاتف لأكثر من مرة شخص لم أكن طالعت رقمه من قبل، كلمته ولم أع ماقال. فطالبته بأن يحاول الاستعانة بشخص لأفقه قوله فقطع الخط.
في صباح اليوم الموالي اكتشفت أن الاثنتي عشرة ألف أوقية لم يتم تحويلها وحولت مكانها مائة وعشرون أوقية فقط!!! فأسررتها في نفسي وظننت سوءًا بصاحبي.
وفي المساء توجهت إلى مكان الرجل فهش وبش في وجهي وقال لي بصعوبة بالغة: <<أنا من ألححت عليك مساء أمس عبر الهاتف لأرد إليك مالك، ولكني منذ صغري أعاني من صعوبة في النطق (الساني اثگيل) وأعلم أنك لم تفهم ما قلت لك ولن تفهمه؛ فلتذكرني برقم هاتفك أكمل لك المبلغ الذي دفعت لي أو إن أردت أرده لك نقدا>>
تركني هذا الشاب الذي يملك عقلا راجحا وورعا ضافيا وأمانة أسطورية. ويفتقد ملكة التعبير عن مبتغاه؛ مصقوعا مشدوها بين سطوات سوء الظن بالغير وحب المال والتعلق بالدنيا وانتزاع الحقوق ممن هم أضعف حالا من جهة؛ وبين التأمل في خلق الله كيف سهل له طرائق الكسب وألهمه إياها مهما كانت قدرات جوارحه كاملة، وكيف لفقير ألكن أن يزاحم السالكين في التعفف عما ليس له مهما عيي لسانه وطهُرت كفه وتأرجح مبلغ جهده بين بيانه الناقص وبنانه الناشط؟!
لم يكن ليفر بمالي لأني في كل الأحوال قد أستطيع ملاحقته فنيا عبر شركة الهاتف ولأنه بمحاولته الهاتفية إيجادي أبعد تهمة تضييع الأمانة بالقرينة، رغم أنه ليس لديه في الظاهر ما يخسره حيث لا مقر ولا مكتب ولا بضاعة سوى هواتف عتيقة وبطاقات شحن يجمعها في قميص متعدد الجيوب، وقد يكون هذا المبلغ الحقير كافيا ليوصله قرية ذويه في سهول لعصابه حيث أخبرني لاحقا.
أعاد لي مبلغي المفقود على قلته وطلبت منه الصفح عن ظني به! وليتني مافعلت فقد عاودته اللكنة واحمرت وجنتاه مجددا ليقول لي حرفين مفادهما أن لاتثريب علي وعاودتني غصتي فعدت أدراجي.
هؤلاء الشباب الشعث الغبر الذي يلتحفون السماء ويفترشون الأرض في ثنايا شوارع انواكشوط، بعضهم ملائكة آدميون يمشون بيننا، فلنترفق بهم ونسمع منهم ونظن بهم خيرا فلربما كانوا أشرف وأعف وأقنع من كثير من زبنائهم.
وهذا الشاب الشريف العفيف -لمن كان به شغف- كان منذ أسبوع يزاول عمله أمام قهوة امبريال في جوف انواكشوط البهيم.