إن ما رافق الربيع العربي من أعمال عنف وتحول الصراع السياسي في بعض البلدان إلى صراع دموي لم تشهد له المنطقة مثيلا من قبل، أدى إلى ما يمكن ان نطلق عليه "الانكشاف الاخباري" في بعض الفضائيات التي باتت بمثابة لاعب ومشارك في الاحداث وليس ناقلا لها، وكأنها مدافع إعلامية تكمل بها الدول أو الجهات المالكة لها الادوار التي تلعبها في أروقة السياسة أو في ميادين القتال.
لم تؤد الانتفاضات العربية فقط إلى سقوط الأنظمة التي تسلطت على شعوبها عقودا طويلة، وانما إلى ما يمكن اعتباره سقوطا مهنيا لبعض الفضائيات الاخبارية الناطقة بالعربية بعد ان اخفقت في التوفيق بين متطلبات السياسة والمتطلبات المهنية.
ورغم ان الحياد المطلق غير موجود بالإعلام بشكل عام الا ان الانحيازات التي كان المشاهد يشعر بها في السابق كانت تغلف بشكل حرفي في كثير من الاحيان، لكن مع بداية الربيع العربي اصبحت هذه التحيزات سافرة في وقت باتت فيه عملية الفرز على الارض بين اطراف الصراع حادة لا تتحملها الحرفية المهنية.
الاكاديمي محمد مصطفى المتخصص في مجال الاعلام يقول " المصداقية والموضوعية حبر على ورق يدرس فقط في الجامعات" ويذهب ابعد من ذلك "بالامانة لا يوجد اعلام الان عند العربية ولا الجزيرة كل واحد عنده اجندة معينة من الاهداف بيخدم عليها في سياقها الاعلامي وهذا يعرف في الاعلام باسم الدعاية .. تحقق هدفا معينا وفقا للسياسة التحريرية لكل قناة".
ويضيف مصطفى "القنوات الامريكية الموجهة بالعربية مثل الحرة وبعض القنوات الخليجية يتضح من مناقشتها للاحداث والشأن المصري انها تأخذ خطا معينا مؤيدا للنظام الحالي".
في الرد على هذه الانتقادات يقول الاعلامي أحمد مسلم رئيس تحرير في قناة العربية "انتقادات اتفهمها لكن في النهاية الحكم للجمهور وهل الناس بتتفرج ام لا والمكان (قناة العربية) الذي نتكلم عليه ناجح ويحرز المكان الاول في المشاهدة هذا يعني أنه في رأي الناس هو الأكثر مصداقية بالنسبة لهم".
إلا أن مسلم، الذي عمل في العديد من القنوات الاخبارية، يستدرك قائلا "لكن كل القنوات عندها اهداف والكل يسعى لتحقيق اهدافه فمن ينشأ قناة يكون عنده رسالة وهذا يشمل حتى القنوات الموجودة في الغرب طبقا لخبرتي الشخصية".الدكتورة ليلى عبد المجيد عميد كلية الاعلام جامعة الاهرام الكندية في القاهرة تتفق مع هذا الرأي إلا إنها تحذر من أن ذلك يؤدي في بعض المعالجات الاعلامية الى الاخلال بالمعايير الاساسية مثل الدقة في نقل الخبر، والفصل بين المعلومة والخبر، وتوثيق المعلومة، ونوعية المصادر التي يتم الاستعانة بها.
في عالم الاخبار، كما في غيرها، لا توجد حيادية مطلقة – فالارض ليست مجالا للمطلقات – لكن الجميع في مهنة الصحافة يتفق على ان توخي الحياد هو مفتاح النجاح لاي منصة اعلامية. في معركة كسب العقول، تتعاظم أهمية الحياد، أو عدم الانحياز، أو التجرد من الميول والمصالح في نقل اخبار العالم للمشاهدين ويضاف إلى ذلك القيم الاخبارية التي تعلن كل محطة اخبارية انها تلتزم بها.
لكن بدا أن الربيع العربي شكل منعطفا هاما في هذا السياق.
تجربة الفضائيات العربية التي بدأت على استحياء مع تليفزيون بي بي سي القسم العربي عام 1994 والذي كان مشروعا مشتركا بريطانيا- سعوديا، وتعزز مع قناة الجزيرة عام 1996 اتاحت للاعلام التلفزيوني فضاء واسعا للعمل الاخباري بعيدا عن التحيزات الوطنية الضيقة مما جعل من توخي المهنية والموضوعية امرا ممكن التحقيق بعد تراث طويل من الاعلام التابع للحكومات.
بعد النجاح الكبير للجزيرة بدا ان سوقا جديدا للفضائيات الاخبارية يتشكل وبعد ان نجحت الجزيرة بتغطية حرب افغانستان 2001 ، شهدت الحرب على العراق عام 2003 تنافسا محموما بين الجزيرة وقناة أبوظبي آنذاك، لتنطلق بعد ذلك تباعا مجموعة من الفضائيات الاخبارية التي تستهدف الناطقين بالعربية.
ولأن نطاق عمل هذه الفضائيات الاخبارية هو منطقة الشرق الاوسط ومن ورائها دول العالم، فقد ابتعدت عن المباشرة الاخبارية التي كانت تميز الاعلام الوطني الحكومي والذي كانت صورته النمطية هي صورة الناطق باسم الحكومات وأداة تشكيل الرأي العام بالطريقة التي تتمناها الطبقة الحاكمة.
الانحياز لمنطق الثورات
حينما بدأت رياح الربيع العربي تهب على المنطقة العربية في تونس وبعدها مصر في مطلع عام 2011 بدت معظم القنوات الفضائية الاخبارية منحازة لمنطق الثورة، وكأنها تعوض عقودا طويلة من انحيازات الاعلام الوطني لسلطة الانظمة.
ولكن بغض النظر عن نبل المقصد في تأييد الثورات العربية فإن الاعلام بدا وكأنه منتج للثورات أكثر منه معبرا عن الحقائق. على سبيل المثال وكما يقول الكاتب التونسي فخر الدين حمامي جرى "تضخيم بعض الانشقاقات السياسية والعسكرية ودفعها للمواجهة الإعلامية لإبراز ترنح النظام وافتقاده لأدوات التحكم".
ويلاحظ في السنوات الاخيرة أن دولا عربية عملت على انشاء قنوات مؤيدة للتيارات المدنية ومعارضة لتوجهات الاسلام السياسي ولحكم الاخوان في ليبيا ومصر، خصوصا الاخيرة، لتعادل الاثر الذي تلعبه قنوات اخرى لها باع طويل في السوق الاعلامي وداعمة للإخوان المسلمين.
في بداية الربيع العربي "كان هناك اجماع على مبدأ التغيير انعكس على قنوات التلفزيون التي ايدت بقوة الثورات" كما يقول الاعلامي أحمد مسلم موضحا أن المشكلة بدأت بعد حدوث التغيير والمسارات المختلفة التي شهدتها الثورات فعندها "بدأ حدوث خلاف على شكل التغيير وابتدأت القنوات تنقسم وتختلف".
في هذا السياق تفرق الدكتورة ليلي عبد المجيد بين نوعين من القنوات: الأول كان يعتقد أنه يدعم مسيرة الحرية والديمقراطية، والثاني كان على وعي بما يقوم به. مثلا سوريا، والكلام للدكتورة، "لم تكن هناك مصادر اعلامية للحكومة السورية كل الاخبار كانت منسوبة لنشطاء أو المرصد السوري أو المعارضين فهم من يقومون بالتصوير وهم من يقومون بالتعليق على التصوير ... لكن هل رأينا وجهة النظر الأخرى؟ ".
ويشير خبراء اعلاميون إلى أن اعتماد القنوات الاخبارية على شبكات التواصل الاجتماعي بكل مال فيها من شائعات ومغالطات والتعامل معها باعتبارها امورا مسلما بها ودون تدقيق مهني محترف ادى الى الابتعاد عن الموضوعية في الكثير من القصص الاخبارية.
ومع حاجة تلك القنوات الى عدد كبير من الضيوف على مدار الساعة اضطر الاعلاميون إلى الاستعانة بضيوف غير اكفاء في مجالاتهم مثل "المفكر الاستراتيجي" و"الخبير الأمني" علاوة على ظهور مفهوم "الناشط السياسي" وهو مفهوم يبدو غامضا في كثير من الاحيان.