إن الإنسان شيء عجيب. فكيف يكون بالأمس هكذا. ويصير اليوم في شيء آخر. إن من الأمور الهامة، في حياة أي إنسان، والتي من المستحيل نسيانها، مرحلة ما اسميه إرهاصات المراهقة؛ وتحول الطفل من كونه بريئا، غافلا، لا يلوي على شيء، إلى ما يشبه تقليد الرجال في سلوكهم وتصرفاتهم. وقد كان الاجتياز صعبا وقاسيا. وقد عانيت شخصيا إلى أقسي الحدود؛ مثلي في ذلك مثل أي طفل.
فنحن الصغار نقرأ القرآن ونتعلم القراءة والكتابة. لكن لا أحد ينشغل كثيرا بتعليمنا الأدب وحسن التصرف والمعاملة. فكنا نعيث فسادا في الأعراس والمناسبات الاجتماعية. فيتم فقس البيض الفاسد على العروسين وعلى أصدقائهم، خاصة، وعلى الحضور بدون تمييز. وكل من رغبنا ،نحن الصغار،في ان نفسد عليه هيأته. ونضايق الفتيات ونسيء إلى الناس بالقول حينا وبالفعل أحايين أخري. ونركب الحمير ولا نزال نركبها حتى يمضي قسط كبير من الليل. ولا أحد يضايقنا ما دمنا لا نتعرض لغير الحمير.
ونتقاتل فيما بيننا. ويتسلط القوي على الضعيف. ويتم حسم الكثير من هذه الصراعات بعيدا عن التدخلات الأسرية. ويرمي بالضعف والوهن من يقحم أهله في مثل هذا النوع من الصراعات. وإذا وجد اثنان نفسيهما في قتال، فعليهما أن يحمسا الصراع بينهما؛ فان شاءا كان على مرأى من أصحابهم، ولا يتدخل أحد حينئذ لصالح أي منهما. وإن شاءا تواريا بنفسيهما، وحسما صراعهما في خلوة. وتعود الأمور إلى الهدوء وربما إلى الصداقة في حالة ما إذا أخضع أحدهما الآخر؛ وربما إلى نوع من التوتر والترصد حتى يتم حسم الصراع نهائيا؛وذاك بان يأخذ احدهم الغلبة على الآخر.
كانت هذه باختصار مرحلة الصبا السابقة على المراهقة. وللأخيرة جانبان هامان. أولهما جانب شكلي؛ وهو التخلي النهائي عن لباس الطفولة. فيودع الراغب في فراق سن الطفولة لباس السروال القصير (كيلوت) والقميص. ويغدو في لباس الفضفاضة والسروال الطويل.ويقلل الصاعدون للمراهقة من ساعات اللهو البريء (كركوب الحمير إلا ما كان خلسة). ويقطعون الصلة نهائيا مع كل الصبية الآخرين؛ أو الذين لا زال من البديهي أنهم في سن ما قبل المراهقة (فلا يثيروا أي شغب ولا يساعدوا على إثارته).كما يعمدوا إلى حلق رؤوسهم حلاقة تبقي شيئا من شعر الرأس بعد أن كان يتم حلقه تماما في المرحلة السابقة( ما يعرف بالدرميز). فلم يعد بالإمكان في هذه المرحلة التجوال حليق الرأس تماما. ويجد من تهاون في الأمر صروفا مهينة من التهكم والاستصغار.
ويتمايز المراهقون بعد أن كانوا في الصغر كالمجموعة الواحدة الكبيرة إلى مجموعات صغيرة كل منها يدعي الفضل والحظوة على المجموعات الاخرى.وتدب الفرقة والخلاف بين هذه المجموعات والفرق المتشكلة حديثا. ويحاول كل فريق (يتكون الفريق من 3-5 أشخاص وقد يكون العدد أكثر أو أقل) في تجوله كسب الثقة وإظهار نفسه بمظهر الرجال الكيسين المتعقلين.ويتصرفون بكثير من المظهرية والتودد علنا، رغم أنهم سرا يخلعون عباءة الكياسة والتعقل.ويحسمون بوحشية ودون تعقل، بعض الصراعات الداخلية التي تظهر من حين لآخر بين أعضاء نفس الفريق أو مع فريق آخر منافس.والجانب الثاني،وهو الأهم، وهو محاولة إقناع الآخرين بهذا التحول في الشخصية. وهنا يكون الأمر بالغ الصعوبة وشاق إلى أبعد الحدود.والعيون في كل مكان ترمقك، وفي أي محل صرت أو دار تجولت، تذكرك بمر ماضيك وسوء أفعالك بالأمس القريب. وتحاول بكل قوتك ان تبدي ألوانا من الصبر والتصبر، وأن لا يستفزك هذا السيل الجارف من الاستهزاء والتهكم. ولا حل غير الصبر وكثير من الصبر فأي تصرف أحمق في هذا الوقت العصيب ربما يؤدي إلى إرجاع تصنيف أحدهم إلى المرحلة التي يريد التخلص منها ومن تبعاتها.والمعيار عندهم هو في قوة التحمل وإذا كان سلوكك وتصرفك لا زال صبيانا فسوف تنهار بسرعة ويتم القضاء على حلمك سريعا. وليس عندك من شيء غير تقبل عاصفة النقد والسخرية بكثير من الروح الرياضية.وليس هذا فقط فأنت في حالة اختبار دائم وعليك في كل مناسبة ان تحسن التصرف وان تحاول لإثبات جدارتك أن تقلب الأمر على مثيريه، فهنا الجزاء من جنس العمل.
وعليك للتخلص الحسن أن تحاول السخرية ولكن بأسلوب متعقل وكيّس. ولا يجوز السخرية ولا الضحك على الذين يكبرونك، فاؤلئك لا قِبَل لك بهم. وليس عليك من شيء غير تحملهم وتحمل دعاباتهم. وإن كان يسمح في بعض الأحيان بنوع من الردود الخفيفة والذكية؛ وإلا فلا.أما صديقاتك و اصدقاؤك، فليس عليك تقبلها وحسب، بل عليك أن تبدع شيئا خالصا وخفيفا وغير متكلف لحسن التخلص.فهنا ،كما قلت، لا يكفي فقط تقبل الدعابة بل عليك أن تأتي بشيء وضمن قوالب معروفة؛ وإلا لما استطعت النفاذ إلى مرحلة المراهقة في إرهاصاتها الأولى.وإياك والردود الجافة أو المفحمة، فكل ذلك لا يفلح.ولا يزيد الأمور إلا تعقيدا عليك وتسويفا لأحلامك. فعليك ،أخي، أن تحسن التصرف وأن يكون التخلص حسنا وجميلا. وإياك إياك الغضب فهو خط أحمر وصخرة صماء تتحطم عليها وللأسف أحلام الكثيرين من الصاعدين للمراهقة.فكن أخي، تربت يداك، من الصابرين وإن عجزت عن الجواب فلا ضير في ذاك، ربما يتيسر لك في مناسبة قادمة. ولكن أحذر ان تظهر لخصومك، والناس كلهم هذا حالهم معك، الضعف أو الاستكانة أو التذلل. ولكن عليك أن تواصل السير بثبات وبدون عجرفة أو تكبر أو تعال. ولا يكتب الفلاح إلا للكيسين الصابرين والمتعقلين والذين يتحملون الكثير.
وعليك أن تحاول في بادئ أمرك التعلم من الآخرين فذاك أمر هام وضروري. ولكي تتعلم يلزمك الكثير من الملاحظة الدقيقة والتقليد غير المكشوف، فذاك ربما يفيدك في خطواتك الاولي. ومع الوقت ستكتسب بعض الخبرات وتتعلم من أخطائك. وإن كنت تخاف الخطأ فأزجره. وأعلم أنه لا نجاح إلا وقبله فشل، ولا فلاح إلا بعد هفوات، ولا سهل إلا بعد تخطي الكثير من الصعاب. فلا يغرنك داع الكسل الداخلي ولا قوة الرفض التي ستتلقاها، فذاك كله تصرعه عزيمتك وإصرارك وصبرك وتحملك. وليس بغير هذا يمكنك الولوج إلى دنيا الرجال المنيعة والحصينة.