تُديرنا الحياةُ بإيقاعها المتسارع، تًشَيِّئُـنَا من حيث لا ندري، فلا نحس ولا ندرك حق الإدراك الأشياء من حولنا إلا من خلال مسابقة مع الزمن المتدفق شلالا لا ينقطع، ونحن نركض حثيثا محاولين اللحاق به.
قلما تجد وقتا تخلد فيه إلى ذاتك للتفكر أو للتأمل أو للترويح عن نفسك في عالم اليوم، فما إن تستيقظ من هجعتك، حتى تتوارد عليك مشاغل كثيرة، وهموم شتى، منها ما جَـدَّ عليكـ، ومنها ما أَرْجَأْتَ وكان عليك إنهاؤه، ومنها ما لا يقـبل التأجيل.
.
أمام محل للخردوات، وفي شارع اكلينيك المزدحم، وجدتُ نفسي مضطرةً إلى الانتظار في مكان تملؤه القمامةُ، ويتنازع مساحتَه الضيقة َالمارةُ وأصحابُ العربات والسيارات، وكان الحرُّ على أَشُـدِّهِ.
حاولتُ التغلبَ على الوقت في انتظار أن يشحنوا الأغراض التي اشتريتُ، ففتحتُ الواتساب، وإذا بي ألتقي من غير ميعاد مقاطع من برنامج: (حواص الشور) الذي يقدمه الأستاذ القدير: محمدو بوداديه، ويعزف فيه التدينيت الفنان: اماكه.
كان الأستاذ بوداديه يرد على بعض الأسئلة المتعلقة بالتيدنيت، ومقاماتها المختلفة، ويستعرض استعراضَ العارفِ المتمكنِ الأحداثَ، والقصصَ المصاحبةَ لبعض التلحيناتِ التي استحدثها فنانون معروفون في سياقاتٍ بعينها، فتحدثَ وأفادَ وأجادَ في الحديث.
وكان الفنان اماَّكَه يداعب أوتار التدنيت مصحوبةً بصوته العذب فيأتي بالعجب العجاب.
هكذا عشتُها لحظات خارجة عن سياق الزمن الاعتيادي، وأحسستُ للحظات أنني روح طيفي يسبح في عالم الصفاء والنقاء، وتبدو الطبيعة من حولي ساحرة، والهواء نظيفا لطيفا، ولم ينتزعني من عالمي المسحور هذا إلا السائق وهو يزمر لأتحرك أمامه وأَهْدِيَهُ الطريقَ.
لقد صدق حقا من قال: "إن الموسيقى هي إنتاج لزمنٍ بديل"، فقد حملني النغمُ والأداءُ والحكاياتُ المصاحبةُ، إلى مسافات زمنية تسير في حركة مختلفة عن إيقاع الزمن الواقعي.
هذا البرنامج يعكس الفن الراقي، والأدب الرصين، ويغترفُ صاحبه من ثقافة صقيلةٍ تعرف الفن الموسيقي وأسرارَه ، وتحترم أخلاقياتِ المجتمع ومُثُلَهُ، وتعيد إلى الذاكرة العميدَ الأستاذ محمدن ولد سيد ابراهيم، وآماش منت أعمر تيشيت تعزف على حكايته الجميلة في برنامج : دروس من الأدب الشعبي.
إن عناق التدينيت والحكاية الأدبية والتاريخية في برنامج ( حواص الشور) يقدم لك بطاقة تعريف المجتمع الموريتاني الأصيل، ويمنحك فرصة لتسترجع ذاتك الغائبة بين هموم الحياة والموسيقى الهجينة.
تلك الآلةُ الموسيقيةُ ذاتُ الأوتار الأربعة: (التيدينيت)، تروي لك تاريخا حافلا بالبطولاتِ، والمواقف الإنسانية النبيلةِ، والملامحِ الأسطوريةِ الثريةِ، كما يقدمها الأستاذ بوداديه.
والغريب أن هذا التربيعَ في الأوتار يستدعي - لو أردنا البحثَ عن المُتماثلِاتِ - فضاءً من المربعات: فالعناصر المكونة للكون أربعةٌ: هي: الهواء والماء والنار والتراب. والفصول أربعة ٌهي: الصيف والخريف والشتاء والربيع. والمراحلُ العمرية أربعٌ: الصبا والشباب والاكتهال والشيخوخة. وطبائعُ الإنسان كما يتحدث عنها أهل الطب أربع: الصفراء، والسوداء، والدم والبلغم.
وفي هذا السياق يربط العارفون بالفن بين طبائع الإنسان، والبحور في الموسيقى الموريتانية.
فالموسيقى الموريتانية الأصلية تقوم على ثلاث (طرق) هي:
أجانبَه الكحلة، وأجانبَه البيظَه، وأجانبَه العاكر (لكنيدِيَّه).
وتتضمن كل واحدة من هذه الطرق الثلاث أربعة بحور هي: (كَــــر، وفَـــاغُو، وسنييمَه، ولبتيت).
يذكر الأستاذ المختار ولد الميداح: أن كَـرْ يقابل طبيعة البلغم، وفاغو يقابل الطبيعة الدموية، وسنيمه تقابل الطبيعة الصفراوية، ولبتيت يقابل الطبيعة السوداوية، أي أن لكل طبيعة من طبائع الإنسان بحرا من الهول يناسبها أكثر من غيره.
ومما يؤكد هذا الرأي، ما أورده الطبيب أوفى في عمدته؛ من أن الموسيقى يمكن أن تعالج المرضى بالسوداء، لأنها تعكس طيفا نفسيا وشجنا لديهم.
إن المستمع إلى تيدينيت اماَّكَه يلتبس عليه الأمر؛ هل الإنسان هو الذي يحرك أوتار الآلة ويعزف بها، أم أن الآلة هي التي تحرك الفنان وتعزفه؟
وسيتذكر لا شك قول أحدهم للفنان لعور ولد انكذي:
ذِي التِّـيـدِنِـيتْ امْنَ اْمْـرَ اللَّ @@ مُـلَاهَا فِابْهَـارْ امْعَــاهَا @
اتْــحَـــــامِـــرْ مُــــلَاهَا وَللَّ @@ زَادْ إِحَـامِــرْهَا مُــلَاهَا @