ها أنا أستجيب لكوامن المشاعر، وأفصح عن خفايا العواطف ،مستسلما لقلم الذوق وحبر الطبع، متعاليا على سلم العادات و خريطة الأعراف ، حتى وإن كان ذلك الطريق غير معبد و لم يسبق له ان سلك.
لقد ودعتنا منذ حين إحدى النغمات الذهبية التي تعتبرمصدرا من مصادر الهول الموريتاني الاصيل، وشجرة كثيفة من واحات الطرب الحساني تتفيأ ظلا لها عن اليمين و عن الشمال، إنك حين تستمع إليها في شريط اكليب إنيمش أو في السماح او في الليمون أو في البوق سترحل بك النغمات بعيدا عن عالمك المألوف وتدخلك بابا كان مقفلا عن إدراكك و يوصلك ذلك الباب إلى واد آخر يملؤ ك معية لم تجربهامن قبل فتصبح وكأنك تجالس ديم بنت
آب وسدوم بن ايد في مناظر جميلة من ربوع ذاتك بعيدا عن العيان والمعرفة ذلك عالم الفن والجمال لاريب فيه عندها يدعوكم الذوق للؤلفة و التواجد ،وحتى تتمنى ان تظل هناك في سنة عن الحياة،إنه عالم الذكريات الذي يضع قدما في التاريخ وأخرى في الطبيعة و يسير مقتفيا آثار الخيال في رحلته نحو اللحاق بالشعور ، وخلف الموكب يتهادى الفكر في خطى وإيدة من الكلمات فيعثر حينا في حفر النغمات ،وما للغيثارمن ترنيمات، فيسنده صدى الصوت العذب المتردد في فراغ الشعور،فيهب محاولا مماشاة الرفقة ،فيسخر منه الخيال ويرميه الجمال بعقدة من الأصوات المبرومة ،فيقع صريعا وهكذا يواصل عناده ، وليس صوت ديم من تلك الذكريات التي يدوسهاالخيال و يطؤها الفكر متجاوزا، بالشعور دون اية وقفة أودمعة اوصمت قصير ،إنها نغمات لاتلوذ بالفرار دائما ولا تبتعد عن محطة الهم بل تظل تحاول استرجاع حظها الضائع ونصيبها المفروض ،من التصور و التعبير .
إنما يطرق آذاننا من الأصوات وما يرد على أذهاننامن الفكروما نراه من الاشياء ، وندركه من معان الوجود لا يغادرنا سهولة ، ولايختفي نهائيا ،بل يبقى معنا نشعره اثناء فرحنا وترحنا،وأكثر شيء يوقظ فينا روح الماضي وميت الطباع هو الموسيقا إنها أكبر عملية جيولوجية تصيب ذاكرتنا وتحفر مخيلتنا فتحول انفعالنا من الصفة لضدها ،حين تبعث الأفكار الميتة والذكريات النائمة لتعيش معنا الحاضر .
وبصفتى من ذواقة الفن ولم يكتب لي أن اكتسبت عنها تجربة شخصية فإني لاأتجاوز آفاق تأثري وحدود مشاعري اتجاه تلك النغمات السحرية التي توافق العواطف و تساير الاحاسيس، فتسقط في اذنك في الصيف كرات ثلج، وتحيطك دفأَ في الشتاء ، وتنقلك من الغوغاء والضوضاء إلى هدوء السحر وأمن الدهر.
وكل مايقال عن ديم بنت آب أنها كانت نجمة من نجوم الفن الموسيقي الموريتاني، وكوكب أضاء نوره دامس الليالي وتتراءَى للعيان بألوان الضوء المتباينة و التي يعكسهاالذوق على جدار النغمات ،ومعدن من معادن الصحراء التي لم تتحلها فرصة التنقيب والحفر، رحلت عن عالمنا ولكننا مازلنا نشعرها في سمرنا وفي أجهزتنا الثابتة والمتنقلة بل وحتى حين نهينم في وحدتنا بصوت خافت، فنلحظ أذواقنا تستدعي حضورها في الذهن ،إنهامعنا كغيرها من الفنانين الذين غادروا تاركين أعمالهم رهن الحاجة، فقد تعلق الطرب وحسن الصوت بوترين متذبذبين من إسمها رسمتهما بريشة الفن على آذان وقلوب السامعين المفتوحين ولاغروفي ذلك فقد نبتت في حديقة فنية وارفة فأبوها سيدات وامها منين وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ،وتغرس إلافي منابتها النخل؟.
ديدي نجيب