يولد الحس معنا كبشر كجزء من عقلنا الذي يتحول فيما بعد إلى معرفة، ويتناسب نمو الحواس مع نمو الأعضاء التي تحويها، وما إن يكتمل استخدامنا للحس نبدأ في اكتشاف العالم حتى نمنح حسنا كل الثقة في رحلتنا عما حولنا، لنجعله بابا لولوج الوجود.
لكننا حين نتقدم في خطى الحياة، ونفقد جزءا من حسنا؛ فإننا نعود لأنفسنا ونعود خطوة إلى الخلف لتفحص القدرات التي منحنا الحس، ونبدأ في نقاش الثقة التي منحناها الحس، ويقوى الجدال ويحتدم الصراع بين حدسنا وحسنا ، حيث يقف الجسم في جانب الحس ويستجيب له، بينما ينتصر الواقع للحدس وينصر، حيث أن واقع البنية الجسدية يستجيب بسرعة لاضطرارات الأعضاء، وتتناسب قدرات الانسان في التكفاء عند الحاجة؛ وينعكس ذلك في ارتفاع قوة الحدس مقابل تراجع القدرات الحسية.
وهنا يبدأ العقل في الانسجام مع واقعه الجسمي الجديد، ويحاول تجاوز ثقته التي منحها للحس، وذلك لتعويض الحاسة المفقودة، رغم اختلاف القدرات البشرية في التحمل واختلافهم في استخدام فكرهم وقابليتهم التي يجهلونها أكثر مما يستخدمونها.
ورغم أن علاقتنا بالكون تبدأ من الحس، ولا تخرج عن حيز اللغة، كنهاية للادراك، ويولد تفاعلنا مع الآخر من خلال اللغة، إلا أنه يمكن أن نعوض بعض هذه الحواس ببعضها، لا إرايديا، كما أنها تتكامل مع بعضها، لكن ذلك يخضع لنوع الحاسة، حيث يختلف البصر عن الذوق والسمع عن اللمس، إن البصر يعادل نصف الادراك، والدليل على ذلك أن حاسة البصر تجسّد نسبة عالية من البنية التصورية؛ حيث لا تستطيع البنية التصورية للانسان أن تجلب له الانطباعات البصرية في حال فقد بصره، عن طريق أي حاسة أخرى بينما يستطيع البصر أن يعوض أي حاسة أخرى وذلك عبر المألوف والبنى النمطية للمعرفة الذهنية، والأمر ملاحظ.
ويبقى أن نشير إلى أن الحس هو الرابط المنطقي الذي يصلنا بالعالم، وأن أي انقطاع لأي نقطة من هذا الرابط يعتبر ابتعادا عن العالم، وعن الآخر وهو كذلك خطوة نحوالخلف، لأنه كلما ضعف الحس نقصت مساحة معرفتنا، وزادت علينا المتاعب إثر محاولة االجسم لاستيعاب الفراغ الذهني الذي يتركه فقد الحاسة في الجسم.
اللهم متنعنا بأبصارنا وأسماعنا وقوتنا ما أحييتنا.
برعاية عودة "البصرات"