فرقعة الأصابع التي غيرت وجه العالم / د.محمد الأمين حمادي

تحل يوم السادس من أغسطس الذكرى الخامسة والسبعين لإلقاء القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية، وإن كان من كلمات توجز معاني استسهال التدمير والهدم والبطش والوحشية في آن واحد فهي عبارة الرئيس الأمريكي هاري ترومان Harry Truman لما سُئِلَ مرة هل كان يشعر بتأنيب الضمير بسبب قراره إلقاء القنبلة فرد قائلا: "لا طبعا، كان قرارا سهلا اتخذته هكذا" وأحدث فرقعة بأصبعيه. فرقعة أصابع كان نتيجتها تدمير مدينة ببشرها وشجرها وحيواناتها ومساكنها. لم يبق شيء.  لا يمكن تصور مدى المعاناة النفسية والبدنية التي كابدها اليابانيون بسبب تلك القنبلة المشؤومة. ومن الصعوبة بمكان تخيل الدمار الذي وقع بسبب إلقاء القنبلة على هيروشيما. أحد أعضاء طاقم الطائرة العسكرية التي ألقت القنبلة وصف منظر المدينة من الجو بعد انفجار القنبلة بأنه كإلقاء نظرة إلى جهنم. وإن تعجب فعجب أن تكون حادثة إلقاء القنبلة قد تنبأ بها الكاتب والروائي البريطاني هربرت جورج ويلز Herbert George Wells في رواية الديستوبيا Dystopia الخيالية "تحرير العالم" The world set free التي صدرت عام 1914. ولما ألقيت القنبلة ووقع ما وقع من الدمار والخراب أوصى الكاتب هربرت أن يكتب على شاهد قبره العبارة التالية: God Damn you all, I told you so! "لعنة الله عليكم جميعا، لقد حذرتكم!".

 لقد كانت حادثة فظيعة تبعث على التشاؤم وتشي بمدى ما قد يصل إليه الإنسان من همجية ووحشية. يظن الكثير من الناس أن إلقاء القنبلة كان هو السبب الذي دفع اليابان إلى الاستسلام وهذا غير صحيح البتة. لقد أثبتت الوقائع أن اليابان كانت قد قررت الاستسلام ودخلت في مفاوضات مع عدة أطراف لهذا الغرض وكان الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية على علم برغبة اليابان في إنهاء الحرب وقد أكد قادة الجيش الأمريكي هذا الأمر ومنهم ستة من أصل سبعة هم أعلى الجنرالات الأمريكيين رتبة لحيازتهم على خمسة نجوم وقد عارضوا قرار استعمال القنبلة الذرية. وهذا الموقف الرافض للحسم العسكري باستخدام سلاح للدمار الشامل هو الذي عبر عنه القائد الأعلى للتحالف الجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور Dwight David Eisenhower لما سأله وزير الدفاع هنري ستيمسون Henry Lewis Stimson عن رأيه في الموضوع فرد أيزنهاور قائلا: " أبلغته أني ضد هذا القرار، لأمرين: أولهما أن اليابانيين كانوا مستعدين فعلا للاستسلام، ولا حاجة لضربهم بهذا الشيء المروع، الثاني أنني أكره لبلدي أن يكون هو السابق إلى استعمال هذا السلاح.".

لقد كان الأمر فظيعا حقا ومروعا لدرجة لا يمكن تخيلها لأن الأمريكيين لم يكتفوا بضرب هيروشيما وحدها بل أعادوا الكرة وضربوا مدينة ناجازاكي. وقد لا يعلم الكثير من الناس أن الأمريكيين كانوا قد أعدوا لائحة من خمس مدن ستطالها آلت البطش الهمجي لولا أن الإمبراطور الياباني أعلن بنفسه الانهزام والاستسلام على أمواج الإذاعة وطلب وقف الحرب.

  يعلم الجميع اليوم حجم الدمار الذي حل باليابان من جراء استخدام السلاح الذري، لكن لا بأس بالتذكير ببعض الحقائق التاريخية بخصوص قنبلة هيروشيما وآثارها المدمرة. لنستمع إلى قائد الطائرة الذي ألقى القنبلة يصف المشهد فيقول: " أخذ الانفجار شكل فِطْرٍ أرجواني يتصاعد في السماء حتى بلغ ارتفاع 45 ألف قدم (13716 متر) واستمر يغلي متصاعدا كمخلوق مرعب لا يزال حيا، وكان المشهد على الأرض أسفل منا أشد إرعابا...".

بلغت درجة حرارة الانفجار أزيد من 6000 درجة مئوية أي أنها تجاوزت حرارة سطح الشمس أما على الأرض في مدينة هيروشيما فبلغت درجة الحرارة 3000 درجة مئوية (نحن الآن لا نكاد نتحمل 45 درجة حرارية) وعلى مدى السنوات الخمس الموالية لقي 200 ألف شخص حتفهم جراء الانفجار.  

لقد أراد منفذو هذه الجريمة النكراء أن يروا بأعينهم ما يمكن أن تحدثه هذه القنبلة من الدمار والقتل فلم يتركوا شيئا للصدفة حتى في اختيار وقت إلقاء القنبلة، صباح يوم الاثنين عند الساعة 8 و15 دقيقة وهو الوقت الذي يكون فيه الناس خارج مساكنهم في الأسواق والدوائر الحكومية والشركات والمؤسسات التعليمية ومحطات القطار وهلم جرا.

 لقد كشفت هذه الحادثة جانبا شديد الظلمة من طبيعة الإنسان، لكن دعونا نتلمس الجانب المشرق من طبيعة الانسان. يبرز ديننا الحنيف في دعوته إلى الرحمة والعدل والإحسان يقول الحق سبحانه: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربى وينهى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" فهذه كلها أخلاق تتنافى مع القتل والتدمير والظلم والغلظة وانعدام الرحمة. كما نجد في السيرة النبوية ما يعزز نفس الفكرة فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول للسرايا: أغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا...". إن نظرة إحصائية سريعة لنتائج حروب الرسول ﷺ تعطي أقوى دليل على انعدام الرغبة في القتل الهمجي.  لقد بلغ العدد الإجمالي لقتلى المسلمين والكفار 1284 قتيلاً فقط في حوالي 63 معركة على مدى عشر سنوات!!  ولم تتجاوز النسبة المتوسطة لقتلى الفريقين 1.5% من العدد الإجمالي للمشاركين في تلك الحروب. وأدع لكل واحد منا الحرية في استلهام ما تعكس هذه الحقائق من معاني الإنسانية والرحمة والمسالمة.

أريد أن أختم هنا ببعض الملاحظات والمفارقات العجيبة التي لم أجد لها ذكرا من قبل وتتعلق باسم الرئيس الأمريكي (هاري) واسم المدينة (هيروشيما) فعدا تشابه الحروف بين الاسمين: "هاري" و "هيرو" فإن هيروشيما تحمل حروف فعل هشم تهشيما والهشيم والهَشِيمَة: الأَرضُ التي يبس شجرها حتى اسودَّ غير أَنه قائم على يُبسه وهذا بالضبط هو ما حصل للشجر في هيروشيما ووفعل هرش وتَهَارَشَ الأعْدَاءُ: تَقَاتَلُوا. وأما "هاري" فاسم بمعنى ساقط أو واهي أي أنه آيل إلى الانهيار وهذا ما حدث لمدينة هيروشيما فقد انهار كل شيء فيها ويقال أيضا هرَّأَ اللحم أنضجه حتى تفسخ وهذا أيضا حدث لسكان هيروشيما فقد أصيبوا بالحروق وتفسخ الجلد. أما من الناحية الإبستيمولوجية الصرفة فإن هاري Harry مشتق من المصطلحات الجرمانية "heim" و "rik" والتي تعني المنزل والملك. وقد ذكرني ذلك بالآية الكريمة: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ) وهو ما حصل بالفعل في هذه الواقعة فقد تم تدمير وإفساد مدينة بكاملها وتم إذلال أعزة اليابان ممثلين في الامبراطور الذي أرغم على قراءة بيان الاستسلام بنفسه على أمواج الإذاعة وأي إذلال فوق ذلك؟

وأخيرا وليس آخرا فلا بد من التعريج على كلمة قالها الكاتب البريطاني هربرت ويلز في سياق كلامه على حادثة هيروشيما. لقد قال عبارة تلخص المشهد وتشخص الوضع وتطرح الحل قال:" يتبدَّى تاريخ البشر أكثر فأكثر كسباق محموم بين التعليم و وقوع الكارثة". لقد صدق هربرت ويلز في هذه المقولة ولكن تلك قصة أخرى.

أربعاء, 05/08/2020 - 11:27

          ​