عانى القطاع الزراعي من سطوة شبكات الفساد، فنهبت أموال، وضخمت فواتير، وبيعت أسمدة ومبيدات مغشوشة أو منتهية الصلاحية، وشوهت صورة الأرز الوطني، بسبب توزيع كميات هائلة، مغشوشة التقشير، عبر دكاكين أمل.
(راجع على جوجل، مقالنا القديم: مكافحة الفساد أم مكافأة الفساد؟).
وسنكتفي هنا ببعض الأمثلة المحدودة، منعا للإطالة:
أ- تضخيم الصفقات:
قبل أن ترفع شركة اسنات يديها عن الحاصدات والجرارات، اشترت الدولة 20 حاصدة صينية من نوع فوتوه (Foton)، مع جراراتها بنحو 60.000.000 أوقية قديمة للحاصدة مع جرارها، بتكلفة إجمالية وصلت إلى 1.200.000.000 أوقية قديمة، بينما لا تتجاوز القيمة الحقيقية لهذه الحاصدات نحو 14.000.000 للحاصدة وجرارها.
والمصيبة أن هذه الحاصدات، التي تجاوز ثمنها بما يقارب الضعف، ثمن أفضل الحاصدات الأوروبية، مثل انيوهولاند واكلاس، كانت أسوأ ما وصل إلى شمامة من الحاصدات، وخرج أغلبها عمليا من الخدمة بعد حملتين أو ثلاث.
ويقال إن صفقة الحاصدات كانت من نصيب أحد المقربين اجتماعيا من رئيس الجمهورية آنذاك.
ومثل ما ضخمت حاصدات فوتوه، ضخمت بعد ذلك أيضا صفقة حاصدات ماسي فرجيسون، التي وصلت تكلفتها إلى أكثر من 69.000.000 أوقية قديمة للحاصدة مع جرارها، وهو ما يقرب من ضعف تكلفتها الحقيقية.
وقد أعلنت الدولة "دعم المزارعين" بتحمل 25% من الثمن المضخم لحاصدات ماسي..!
وما يقال عن الحاصدات، يقال مثله، أو قريب منه، عن الأسمدة والمبيدات، وإن كانت هذه تنفرد بفساد آخر أكثر غرابة.
ب- الغش في الأسمدة والمبيدات:
لم تفحص الأسمدة التي تستوردها الحكومة وتبيعها للمزارعين، لم تفحص من جهة محايدة إلا مرتين، كل منهما في سنة منفصلة.
وقد أكد الفحص الأول الذي أجراه المزارعون في مركز البحوث الزراعية السنغالي، أن نسبة النيتروجين في اليوريا لا تتجاوز نحو 21%، بدلا من النسبة المعهودة، المدونة على أكياسه، وهي 46%..! بينما كانت النسبة في الفحص الثاني، الذي أجراه المزارعون في المركز ذاته، لا تتجاوز 19% في إحدى العينتين، و14% في الأخرى.
وقد أحيطت الحكومة علما بنتائج هذه الفحوص، دون إجراء أي تحقيق، أو إصدار أية عقوبة.
أما المبيدات، فقد باعتها سونمكس بوقاحة، في إحدى السنوات، بعد انتهاء صلاحيتها، مع أن تاريخ انتهاء الصلاحية مدون على العبوات بشكل واضح.
ج- تشويه صورة الأرز الوطني
كانت الطريقة التي تعتمدها الدولة، في شراء المحصول الوطني من الأرز، هي تحديد سعر الأرز الخام، والأرز الأبيض المقشر، على أن يلتزم أصحاب المصانع بشراء الأرز الخام من المزارعين بالسعر الذي حددته الدولة، مقابل شراء الدولة ما ينتج عنه من أرز أبيض.
ويشترط العقد بين الدولة وأصحاب المصانع أن يكون الأرز مقشرا تقشيرا ممتازا، وهو ما يعني أن تظل نسبة أرباح أصحاب المصانع في الحدود المعقولة.
أما إذا قشر الأزر الخام تقشيرا متساهلا، فإن ذلك يعني مضاعفة أرباح صاحب المصنع، مع رداءة الأرز الأبيض الناتج من العملية.
وبسبب العلاقات التي نشأت تحت الطاولة، بين مسؤولي سونمسك ومقشري الأرز، أو بعضهم على الأقل، أصبح مسؤولو سونمسك يتسلمون، مغمضي العينين، أرزا بالغ الرداءة، "نصف مقشر"، ويدفعون به إلى دكاكين أمل، ليصبح هذا المنتوج الوطني محل تندر المستهلكين، ولتجد الدولة نفسها أمام نحو 50.000 طن من الأرز الأبيض بمخازن سونمكس، "لا تستطيع حتى الحيوانات أكلها"، على حد تعبير الوزير الأول آنذاك يحيى ولد حد أمين في لقاء مع النقابات الزراعية.
3- النقص الحاد في الآليات
بسبب غياب كل من التمويل والدعم الحكوميين، يعاني المزارعون من نقص مزر في الآليات الزراعية، وخاصة الحاصدات والجرارات. فقدرات المزارعين المالية، لا تسمح لهم، في أغلب الحالات، بشراء هذه الآليات المكلفة، التي تعتمد عليها الزراعة الحديثة.
ولذلك فإن أغلب الموجود من هذه الآليات على الضفة الموريتانية، هي آليات متهالكة، انتهت أعمارها الافتراضية.
وقد سمح منع السنغال حاصداتها من نجدة المزارعين الموريتانيين، هذا العام، سمح بكشف عورات السياسات الزراعية الخرقاء لحكوماتنا.
4- النقص في البذور الجيدة
يكاد يكون الإجماع منعقدا بين المزارعين على أنه لا توجد بذور أرز ممتازة في موريتانيا على الإطلاق. كما أن ما ينتج من البذور الرديئة في موريتانيا، لا يغطي إلا جزءا يسيرا من الاحتياجات المحلية، مما يفرض على المزارع الموريتاني استيراد البذور من السنغال، أو استخدام أرز خام عادي، تمنع كافة المعايير العلمية زراعته.
ويبدو أن أزمة البذور هذه، آخذة في التصاعد، سنة بعد أخرى، دون أي تحرك حكومي جدي.
يتبع ...