الارتقــــاء بالممارسة السياسية أولاً / زين العابدين العباس

إن الممارسة السياسية السوية في أي بلد، ارتضى لنفسه نظاما سياسيا مبنيا على التعددية الحزبية المؤطرة بالمنهجية الديمقراطية، وفي كنف الضوابط المؤسساتية والدستورية، لا يمكن أن تفضي إلى بناء ديمقراطي تراكمي بدون وجود أحزاب سياسية حقيقية، تضطلع بمهامها ومسؤولياتها المجتمعية عبر التنشئة السياسية لأوسع فئات المواطنين، والتأطير الفكري والتنظيمي لمنخرطيها بشكل يتيح لهذه الأحزاب إمكانية انتقاء النخب الكفؤة في كل المجالات، كما يجعلها قادرة على إرساء مقومات ثقافة سياسية بمرجعيات فكرية واضحة المعالم. لذلك، فإن امتلاك الرؤية السياسية والبرنامج السياسي، فيما نصطلح عليه بـ "الأحزاب الحاملة لمشروع مجتمعي"، لتمييزها عن ما دونها، من باقي التشكيلات التي تفتقد إلى بعض أو جل مواصفات الحزب السياسي بالمعنى المتعارف عليه في أدبيات علم الاجتماع السياسي.

وانطلاقا من هذه الفرضية، تجدر الإشارة إلى أن موريتانيا، قد اختارت منذ فجر الاستقلال، هذا التوجه القائم على التعددية الحزبية والفكرية المشكلة للحقل السياسي كتعبير عن تعدد المشارب والحساسيات الآيديولوجية التي تبلورت وتطورت في مخاضاتها" مسارات التجربة الديمقراطية الموريتانية" سواء فيما يميزها من خصوصيات أو فيما يقربها من سياقاتها الإقليمية والقارية؛ وعليه، فإن أي مواطن أو مواطنة- متشبع (ة) بعراقة وأمجاد وطنه، وملتزم (ة) بالنضال من أجل قيم الحرية، والمساواة، والمناصفة، والعدالة الاجتماعية، ودولة الحق والقانون، ببعد وطني ديمقراطي، وبأفق إنساني- لا يمكنه أن يرتكن إلى السكون وينبري إلى الصمت في ظل موجة الرداءة التي أصبحت تطبع مختلف مناحي الحياة العامة ببلادنا. ولعل المجال السياسي بمعناه "النسقي الحزبي"، يظل أحد أكثر المجالات المشوبة بالعديد من الاختلالات والعيوب البينة.

في تقديرنا المتواضع وحتى نتبنى الموضوعية في الطرح والمعالجة، بعيدا عن التحامل أو المجاملة، ينبغي التذكير بأن مشهدنا الحزبي في مجمل مكوناته وحساسياته الفكرية، بالرغم من كل ما ذكر، يمثل تجربة غنية ومتميزة في التجربة الديمقراطية الموريتانية. وباستقراء مركز لتموجات التجربة، نستخلص بأن الحقل السياسي الوطني عموما والحزبي منه على الخصوص، قد مر بمحطات تأسيسية هامة إبان مرحلة النضال من أجل استقلال البلاد، فواكب ديناميات الحركة الوطنية الموريتانية قبل وإبان وبعد الحصول على الاستقلال، ثم مرحلة تكريس التعددية الحزبية والسياسية إبان فترة النضال من أجل بناء الدولة الوطنية الحديثة.

ولعلها نفس الرهانات السياسية بتموجات التدافع السياسي، تلك الحركات التي ظهرت وتفاعلت وشكلت بعنفوانها الفكري وحضورها النضالي، أهم فصول الصراع الآيديولوجي بين "نخبة الدولة" ونخب "المعارضة السياسية الشعبية"، ممثلة للكتل السياسية المنبثقة في خضم التناقضات المجتمعية التي أفرزها الواقعان الاجتماعي والسياسي الجديدان إبان وبعد مرحلة الاستقلال الوطني، مرحلة تبلور وبروز مشاريع مجتمعية متعارضة في المنطلقات الفكرية وفي أساليب التدبير وفي الغايات والأفاق، جاءت مرحلة انبثاق صراع جديد بين الفاعلين السياسيين شركاء الأمس في بوثقة النضال لتحرير للوطن ضد المستعمر، وقد تحولوا إلى فرقاء بل وفي بعض الأحيان إلى خصوم سياسيين في "معترك السياسة كل في معسكره"، سعيا لإثبات الشرعيات من خلال بلورة الأجيال الثلاثة للحقوق الإنسانية بعناوينها المتمثلة بالأساس في السعي لإرساء الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والمدنية، ثم بعد ذلك، تدشين عهد التوافقات الكبرى في إطار مسارات ما اصطلح عليه "بالمسلسل الديمقراطي" أولا، ثم "تجربة التناوب التوافقي" ثانيا، وصولا إلى مرحلة تجربة الانتقال نحو الديمقراطية لما بعد دستور 1991م.

إن الدارس الموضوعي لمسارات ومخاضات التجربة الديمقراطية الحديثة لموريتانيا ما بعد الاستقلال، بكل ما للتجربة من اشراقات ونقائص أو إخفاقات، لا يمكنه إغفال الخصوصيات المميزة لمجمل الفاعلين السياسيين الذين أثروا وبصموا هذه التجربة الطويلة والمتموجة في سياقات معقدة بين المحلي والإقليمي والقاري والدولي برهانات متضاربة ومتعارضة وأحيانا معاكسة ... كما لا ينبغي إغفال التضحيات الجسام التي بذلتها أجيال متلاحقة من المناضلات والمناضلين من أبناء الوطن في شتى مناحي العمل السياسي والحزبي والنقابي والحقوقي والثقافي وغيرها كثير، لكي تصل موريتانيا إلى ما وصلت إليه اليوم ... لكن لا يعقل أن لا نتساءل اليوم بعمق وقلق كبيرين حول نتائج ومخرجات كل ما قطعناه من محطات وراكمناه من مكتسبات وإخفاقات، وهل كنا طيلة هذه المسارات نسير بالبلد في الطريق القويم ؟ هل ما نشهده اليوم من أزمات اقتصادية واختلالات اجتماعية وتحولات قيمية ومجتمعية كبيرة ومؤثرة، يعكس حقا ما قدمناه كشعب وكمكونات وكأجيال ونخب حزبية ونقابية وجمعوية ومثقفين، من تضحيات جسيمة على أمل بناء مجتمع الحداثة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في كنف دولة الحق والمؤسسات الراعية للحقوق والواجبات الفردية والجماعية ؟

إننا اليوم، وفي زخم التحولات والحركات المتنامية، نواجه نفس الأسئلة المقلقة والاختيارات الفارقة التي واجهها أسلافنا الرواد المؤسسون لديناميات "الحركة الوطنية التحررية" ... أسئلة البدائل الحقيقية لضمان المرور الآمن للمرحلة المقبلة ... مرحلة التثبيث الديمقراطي والتوزيع العادل للثروات وإرساء منظومة ناجعة ومتطورة للتربية والتعليم، وتحقيق شروط المواطنة والكرامة والحريات وربط المسؤولية بالمحاسبة ... باختصار، ها نحن بعد زهاء ستة عقود على استقلال البلاد، نعيد طرح السؤال المركزي : "أي نمودج تنموي للبلد" ؟ ..

وكخلاصة لهذه المراحل السالفة الذكر الكبرى، مقارنة بما نعيشه الآن، يمكن الجزم بأن السياسة عموما والنضال الحزبي على وجه التحديد، قد فقدا للأسف بريقهما و جدواهما الدلالية والرمزية، في أعين فئات واسعة، وخصوصا في أوساط الشباب وفئة من المتنورين، و يعزى ذلك في تقديري إلى مجموعة من الأسباب، أذكر منها:

- اضمحلال التنشئة الفكرية والتنظيمية والتربية على المواطنة والقيم الإنسانية داخل بعض الهيئات الحزبية كما كان معهودا في السابق؛

- غياب بعض الأحزاب السياسية من فضاءات التوعية والتأطير السياسي والنقابي والفكري من رحاب المدارس والمؤسسات التعليمية والجامعات نموذج الاتحاد الوطني لطلبة المغرب؛

- المغادرة الطوعية لهذه الأحزاب السياسية لبعض الفضاءات والمجالات النخبوية والتأطيرية التي كانت إلى وقت قريب تشكل امتداداتها وأذرعها المؤثرة في صناعة وتوجيه الرأي العام؛

- ضمور منسوب القيم على حساب بروز النزعات المصلحية والبراغماتية الذاتية والوصولية بشكل لافت؛

- غياب الديمقراطية الداخلية وانحسار دوران النخب واستعمال مختلف الأساليب الملتوية في تدبير وتسيير الشؤون الداخلية لهذه الفئة من الأحزاب وهيمنة القيادات الوصولية على حساب المناضلين والكفاءات النضالية؛

- انحدار الأخلاق السياسية وتدني مستوى الخطاب السياسي وسقوط هؤلاء الفاعلين الحزبيين في مستنقع الشعبوية والتهريج والإسفاف والانحدار في السلوك والممارسة …

إن هذا الوضع المأزوم الذي يطبع جزءا من المشهد الحزبي ببلادنا، يجعل شريحة كبرى من الموريتانيين، سواء من المنتمين إلى الأحزاب، أو من الأغلبية الواسعة لفئات المجتمع الغير معبر عنها حزبيا، غير مرتاحين لواقع ومستقبل الجسم الحزبي باعتلالاته الراهنة التي تطبع بعض مكوناته، وما يشكله ذلك، إن استمر، لا قدر الله، من خطر حقيقي على التجربة الديمقراطية الواعدة ببلادنا، الأمر الذي يستوجب في اعتقادي الاحتكام إلى المقتضيات الدستورية المتعلقة بالأحزاب السياسية وكيفية تأسيسها وتسييرها وتدبير شؤونها على أسس ديمقراطية، وقيامها بالمهام المنوطة بها في التأطير والتكوين والتمثيل، و تشجيع المواطنين والمنخرطين على المشاركة في الشأن العام. وبالتالي تعديل وتحيين الإطار التشريعي والقانوني للأحزاب السياسية. 

باختصار شديد، نحن في أمس الحاجة في الوقت الراهن، إلى إعادة تمثل معنى وماهية السياسة وغاية ووظائف الحزب السياسي. وهذا هو المدخل الحقيقي للإشكالية في تقديري. ولربما ستوفق الأجيال الفاعلة والنشيطة في المجال الافتراضي فيما استعصى على الأجيال التقليدية إنجازه والتعبير عنه.

اثنين, 31/08/2020 - 10:37

          ​