إن كرة القدم ليست مجرد لعبة رياضية تنافسية تقتصر أهميتها على الكسب المادي و التسلية والصحة فقط، بل هي أكثر من ذلك وأبعد, فهي منظومة متكاملة تشتمل على عدة مجالات: اقتصادية - اجتماعية بل وحتى سياسية.
لست هنا بصدد الحديث عن فوائد كرة القدم على صحة البدن والعقل وسلامتهما والتي يعرفها الجميع، إذ العقل السليم في الجسم السليم كما يقال، و لن أخوض في مفهوم الكرة الرسمي التقليدي الذي يعني المنتخبات والأندية والبطولات المنظمة.
إنني سأتطرق من خلال نموذج وتجربة إلى الجانب المتعلق بممارسة الأطفال لهذه الرياضة في الشوارع والأحياء والمدارس أو مايعرف ب ( كرة الشوارع), وسأبين مدى نجاعتها في التقريب بين شرائح المجتمع ونبذ العنصرية والتمييز, ومساهمتها في إزالة الحواجز العنصرية والطبقية بين أطياف الوطن الواحد والتي وضعتها عدة عوامل تراكمية واستطاعات هذه اللعبة أن تزيلها على مستوى النشء بصفة خاصة عن طريق الممارسة والتشجيع.
إذ لا تكاد تخلوا ساحة عمومية ولا رصيف في العاصمة من أطفال يلعبون كرة القدم في كل أوقات النهار وأحيانا في الليل تحت ضوء القمر وعلى أضواء البيوت والسيارات .
طبعا لا يقتصر الموضوع على العاصمة فقط بل تجده في كل المدن والقرى وحتى البوادي .
لكننا سنبقى في العاصمة وبالتحديد في أرقى أحيائها (تفرغ زينة) حيث يبدوا التباين المعيشي والطبقي جليا بين أبناء الأغنياء من سكان الفلل والقصور ونظرائهم من قاطني الخيم والأعرشة جنبا إلى جنب.
بالجانب الشمالي من الملعب الأولومبي أو المركب الأولومبي بتفرغ زينه تقع ملاعب رملية شاسعة ومترامية الأطراف، تستخدمها عدة أندية وطنية في تدريباتها وتعرف محليا بملاعب العشاق.
لا أحد يعرف بالضبط سبب هذه التسمية، لكن ربما كان عشق الكرة هو سببها.
ففي كل مساء من مساءات تفرغ زينة الباردة يتوافد شباب المنطقة والمناطق المجاورة لها من مختلف الألوان والمستويات الاجتماعية ليتطفلوا على هذه الأندية ويزاحموها في التدريبات.
ولأن الشباب في هذه البلاد تعود على سد الأبواب في وجهه ووضع العقبات في طريقه، صار هؤلاء الطفيليون يتجنبون الولوج من البوابة الرسمية للملعب مستعيضين عن ذلك بتسلق السور أفرادا وجماعات يساقطون تباعا داخل الملعب من كل حدب وصوب.
في هذه الملاعب تجد ابن حارس الفيلا يلعب مع ابن مالك الفيلا جنبا إلى جنب دون حواجز ولا ألقاب, أضفت جماعية الكرة ومتعتها نوعا من التآلف والتقارب بينهما سيزداد مع الوقت لينعكس على علاقتهما خارج الملعب.
صحيح أن كرة القدم لا يجب أن تكون هي الأولوية في حياة الطفل ولا شغله الشاغل, بل هي كما يقال (أهم الأشياء الغير مهمة), إذ يجب أن تأتي بعد التربية والدراسة طبعا في ترتيب الأولويات وليست على حساب أي منهما.
وصحيح أيضا أنه توجد عوامل كثيرة وأسباب متعددة تحد من العنصرية وتحارب الطبقية والتمييز وتقارب بين الشرائح, لكن يمكن اعتبار كرة القدم من أبرز هذه العوامل والأسباب وأكثرها نجاعة في الماضي والحاضر, حيث انعكست نتائجها الملموسة على كل الممارسين لها من أطفال وشباب.
أطفال فرقتهم الظروف واختلاف المستويات واستطاعت كرة الشوارع أن تجمعهم وتقارب بينهم.