ليست المرة الأولى التي يتجرع فيها سعد الحريري السمّ. الذي يبدو انه أدمن على إلقام جمهور الطائفة التي يتزعم تمثيلها الأطباق المسمومة. لكنه في كل مرة يعطي لطبق السمّ اسما جديدا. فحماية الاستقرار، ومصلحة لبنان العليا، شعارات لم تجد سوى أطباق الحريري المسمومة فدية لها.
المراهقة هي حقبة زمنية محددة لدى الشباب. لكن المراهقة السياسية بلا سقف زمني عند الحريري. فالوقائع والتجارب تقول بأن الرجل امتهن تقديم التنازلات التي يبدو أنه لا يعرف حتى تأمين مخارجها اللائقة.
فكيف أقنع الحريري نفسه، أن إقصاء المكوّن الشيعي عن وزارة المالية، يحقق التوازن المطلوب مع الثنائي الشيعي ويؤدي الى إضعافه. ومن أقنع الحريري أن استحواذ فريقه المهزوم والمأزوم على حقيبة المالية او الحكومة كاملة يؤمن التوازن المفقود، ويصلح الاقتصاد ويوقف الانهيار وينقذ لبنان من الهريان والتآكل الذي أصابه جرّاء سياسات مزمنة اقترفتها الحكومات التي شكلها سعد الحريري ورفاقه في تجمع رؤساء الحكومة، الذين اعتبروا مبادرة الحريري شخصية ولا تمثلهم.
ربما لم يقل أحد للحريري، أن موقعه السياسي الهش والهزيل بغض النظر عن كتلته النيابية المتآكلة، لا يسمح له بالرقص على الحبال والحبائل السياسية المشدودة، والتي يمسك بأطرافها ووسطها وكل مفاصلها قوى إقليمية ودولية تقول التجارب بأن الحريري لم يعدو كونه مجرد حجر لا يعرف كيف يتحرك على رقعة الشطرنج.
ربما أيضا لم يقل أحد للحريري، بأنه شرّع تحويل مصطفى أديب الى دمية حقيقية، وليس رئيس حكومة مهمة إنقاذيه، عندما أعلن التدخل لدى أوديب لإقناعه بتسمية شيعي مستقل للمالية. وهو بذلك مارس التطاول على مقام رئاسة الحكومة أكثر من كل نظرائه ومنافسيه، بل وحتى أكثر من جبران باسيل.
الوقائع السياسية تقول إن الحريري كابر وعاند وأعلن رفضه توزير ممثل عن اللقاء التشاوري السني. لكن الحريري غادر مربع المعاندة والرفض وانتظم في دائرة الخضوع لمشيئة زعيم حزب الله ووزّر في حكومته ممثلا عن اللقاء التشاوري لسنّة حزب الله.
والوقائع تقول أن الحريري انتظم في دائرة الخضوع للتسوية المسمومة التي حملت ميشال عون الى قصر بعبدا، وحملته الى السراي الحكومي ليسقط قبل حكومته جراء ضغط 17 تشرين التي طالبت برحيل ميليشيا الفساد والمال والسلطة والسلاح. وهو اليوم ينتظم في دائرة الخضوع لشروط حزب الله في توزير شيعي للمالية بهدف ضمني ليثبت بأنه لا يقدم أوراق اعتماد جديدة للسعودية.
تجرع السمّ، قاتل بدون شك. فهو كالكفر ليس بعده شيء. وهو تماما كالرصاصة التي أطلقها ميشال عون على اللبنانيين عندما قال ذاهبين "طبعا الى جهنم".
أوجه الاختلاف بين سمّ سعد الحريري وجهنم ميشال عون تكاد تكون مفقودة. تباين العبارتين لا يعني اختلاف النتيجة. فالبلد يعاني شبه انسداد محكم الاغلاق. واستعصاء مطبق سببه اعتقاد الحريري وعون ومن في حكمهما أنهما يمتلكان القدرة على الفعل والتأثير في الواقع اللبناني المأزوم.
صحيح أن انفجار المرفأ وحرائقه المتوالية قد ولّد دينامية سياسية فرنسية مستجدة تجاه لبنان، منتصبة على أشلاء ضحايا انفجار بيروت الهيروشيمي الذي تسبّب بفك الحصار عن العهد القوي كما صرح ميشال عون.
لكن الصحيح أيضا أن الدينامية الماكرونية مستولدة من دائرة النار الأوسع في شرقي المتوسط، حيث الأساطيل التركية ترسم خطوط النفوذ الطاقوية والجيوسياسية من ليبيا الى قبرص واليونان، وهي الخطوط التي ربما ينجح "منتدى غاز شرق المتوسط" الوليد والذي يضم مصر، قبرص، اليونان، إيطاليا، الأردن، "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية في تصحيح إحداثياتها وخرائطها، تماما كما فرمل اعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن سرت والجفرة الليبيتين خطا أحمرا للأمن القومي المصري والعربي، الاندفاعة الاردوغانية وأوقفها عند حدها في مصراتة.
لكن "منتدى غاز شرق المتوسط" الذي لا يضم لبنان، الذي ينتظر بدوره استكمال المفاوضات مع واشنطن لترسيم الحدود البحرية مع الكيان الإسرائيلي والتي قال بيان رئاسة حركة أمل في سياق تفنيده العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، أنها أنجزت وتنتظر الاتفاق مع الاميركيين على توقيت إعلانها.
وفي هذا السياق يمكن النظر الى الاندفاعة الماكرونية باتجاه لبنان، بذات المنظار الذي يمكن النظر فيه الى الاندفاعة الاردوغانية شرقي المتوسط. انهما الاندفاعتين المنطلقتين وفق الإشارات الأميركية الصفراء لا الخضراء التي سمحت لهما بالنظر الى حجمهما الإقليمي بالتواجد على خطوط تماس المنطقة. أما حصر إرث النفوذ الجيوسياسي والطاقوي والتموضع النهائي في المنطقة المتوسطية فهو ما ستقرره الإشارات الأميركية إياها.
إنها الإشارات الأميركية التي تقول أن المطلوب من الحكومة اللبنانية "الابتعاد عن حزب الله" حتى تتدفق المساعدات الأميركية والدولية على لبنان. وهي الإشارات المتباعدة عن المبادرة الفرنسية التي تقر بدور الحزب السياسي رغم حكم محكمة بلغارية بالسجن المؤبد على عنصرين من حزب الله ثبت ضلوعهما في تفجير بورغاس الذي استهدف حافلة سياح إسرائيليين.
وهي الإشارات الأميركية التي انتقلت من عدم الفصل بين الجناح السياسي والعسكري لحزب الله الى عدم الفصل بين الحزب وحلفائه، بحسب ما أفصحت عنه العقوبات الأميركية السابقة، وبحسب ما تشي به العقوبات الأميركية المرتقبة خصوصا بعد تفعيل واشنطن للائحة العقوبات الأميركية ضد ايران رغم عدم إقرارها من قبل مجلس.
وفي هذا السياق ينبغي التوقف عند عدم اهتمام الولايات المتحدة العميق بمجلس الامن، ويجدر التذكير أن الولايات المتحدة نفذت غزو واحتلال العراق عام 2003 من خارج مجلس الامن والشرعية الدولية، ما يعني بأن مجلس الامن لن يتمكن من إعاقة التحرك الأميركي ضد إيران وأذرعتها عندما تقتضي الاستراتيجية الأميركية وحدها ذلك.
وسط هذا المناخ، علينا النظر الى إنضباطية ميشال عون المستجدة في سلوكه كحكم وليس كفريق، والمتمايزة عن حزب الله وربما بالتنسيق معه. وقوله للبنانيين نحن بين خياري الذهاب الى الجحيم، أو التمسك بالمبادرة الفرنسية والعمل على تلقفها وإنجاحها لأنها الوحيدة المتاحة والمطروحة وقد تكون الأخيرة لإنقاذ لبنان ممّا بعد الانهيار.
لكن الأسباب العميقة لموقف عون تقول أن لفرنسا التي وضع ماكرون كل رأسماله السياسي على طاولة انقاذ لبنان، دينا سياسيا قديما، يلف عنق رئيس الحكومة العسكرية ميشال عون الذي أجلته الفرقاطات الفرنسية الى باريس بعدما لجأ الى سفارتها، نتيجة عدم تمكنه من وضع "فاصلة" ضمن اتفاق الطائف.
إنّه الدين السياسي إياه الذي يحكم سعد الحريري الساعي مع المكلف مصطفى أديب لتوزير شيعي مستقل في المالية. فكما هو معلوم لطالما اعتبر الحريري أن لماكرون دينا سياسيا برقبته، وهو لا ينسى له جميله أثناء استقالته من الرياض.
فالحريري يتجرّع السمّ ويقدم على الانتحار السياسي ليس لأجل إنقاذ لبنان، إنما لأجل إنقاذ ماكرون الذي وجد نفسه بين مطرقة الولايات المتحدة وسندان إيران، سيما وأنه أقدم على اندفاعته اللبنانية بعيدا عن السعودية عرّابة اتفاق الطائف الذي يتجرع الحريري السم متواطئا على تجويفه، بنفس الكيفية التي جوّفته فيها ممارسات عون عبر إضافته "الفاصلة" الى "الطائف" والسير بالمبادرة الفرنسية او الذهاب الى الجحيم.
إنه الجحيم الذي ضاعف من أوار لهيبه، "الانفجار الغامض" الذي استهدف موقعا لحزب الله في عين قانا. تماما كما ضاعف الفرار من تجرّع السمّ أشلاء فقراء طرابلس التي قذفتها أمواج البحر المتوسط من على متن قوارب الموت باتجاه أوروبا عبر قبرص.