انتقل الاهتمام فجأة، نحو مطار نواكشوط الصغير، بشكل متزايد منذ صباح ذلك اليوم، ومع ساعة الضحى في ذلك اليوم الخريفي، حطت طائرة تابعة للخطوط الجوية الموريتانية، في المطار العتيد بالعاصمة نواكشوط، قادمة من باريس.
لم تكن تلك الرحلة، رحلة عادية من تلك الرحلات التي تذرع الأفق، منذ عقود بين الميتربول ومستعمرته السابقة الهامشية في حسابات باريس السياسية.
كانت الطائرة تقل جثمان الرئيس المؤسس المغفور له، المختار ولد داداه، الذي توفي قبل ذلك بأيام، بمستشفى "فال د غراس" في العاصمة الفرنسية باريس، ومعه بعض أفراد عائلته، ومعهم السفير الموريتاني في باريس، سيدي المختار ولد الناجي، الذي نسق على عجل ترتيبات نقل الجثمان، بعد ما تقرر في قصر أم ركبة، إقامة جنازة رسمية لأول رئيس للبلاد.
كان في المطار يومها، يوم الثامن عشر اكتوبر، رسميون بينهم أعضاء في الحكومة، ومسؤولون سامون آخرون، وأفراد من عائلة الفقيد، وعدد من وزرائه ومعاونيه المقربين، ورموز عهده الذي طوت موريتانيا صفحته، منذ ربع قرن بالتمام والكمال.
المشهد دفع صحافيا للتعليق بحنين ونوستالجيا، لا تخطؤها العين ولا الأذن، وتتجاوز اللحظة و الظرف الخاص:
كأننا نستعد لمؤتمر لحزب الشعب..
فلم يكن فعلا ينقص مشهد الاستقبال في مطار نواكشوط، من رجال ذلك العهد، سوى من رحلوا، أومن أقعدهم السن والمرض، أوطوحت بهم الظروف، بعيدا في المنافي الاختيارية في هذه البلدة أوتلك.
كان هناك على سبيل المثال دون السعي للحصر، أحمد ولد سيدي بابا وعيشاتا كان وبا أمدو آلاسان عبد الله ولد الشيخ ولد أحمد محمود، ديدي ولد اسويدي، سيدي ولد الشيخ عبد الله، بارو عبد الله وآخرون.
كما كان هناك أعيان من مدينة نواكشوط الستينات والسبعينات، خاصة من الذين عرفوا الرجل عن قرب، وتقاسموا معه الحلو والمر في المدينة الصغيرة الناشئة.
وكان على رأس الحضور الرسمي، الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية، الداه ولد عبد الجليل، وهو أحد شباب الكادحين، الذين واجهوا على جبهات متعددة نظام الرئيس الراحل.
كانت في الموقع، الرئاسة بتشريفاتها وسياراتها وتشكيلة من الحرس الرئاسي وقائده الرئيس فيما بعد محمد ولد عبد العزيز.
كأن الدولة قررت في لحظة صحو ضمير، أن تكفر عن كل "عقوقها" للأب المؤسس، وتعيد للرجل ما حرمته منه لعقود، وعن وعي وسبق إصرار، من تقدير واحترام رسمي، ضنت به عليه طويلا بكل تصميم.
فقد انقطعت بشكل شبه كامل، أي صلة بين الراحل وسلطات بلاده، منذ نهاية السبعينات بعد مغاردته سجن ولاتة.
فبعد أسابيع من تحسن صحته، إثر نقله للعلاج في إحدى المصحات الفرنسة بالعاصمة باريس، بناء على ترتيبات دبلوماسية خاصة، انتقل للإقامة في العاصمة التونسية، حتى أواسط الثمانينات، قبل أن يحزم حقائبه إلى مدينة نيس جنوب فرنسا، بعيدا عن أي دعم أو رعاية من الدولة الموريتانية، التي ضنت عليه بمنحه جواز سفر يسهل سفره، وتنقل أفراد عائلته.
وخلال ربع قرن من الزمن، قضاها خارج السلطة، لم يتمتع بكثير من العناية والاهتمام، ولم يسمح له بالعودة إلى أرض الوطن، إلا بعد ما أنهكه المرض، وأفقده أي قدرة على التأثير في المشهد السياسي.
فيما كانت الطائرة تتحرك، على مدرج المطار حاملة جثمان الراحل، ساد الحزن المكان، فيما سرت بين الحين والآخر، همهمات وهمسات متقطعة، تسترجع صورا من مجد الرجل الذي ينتظر الجميع جنازته، وربما تبادل البعض، أطراف حديث عن مواقف عرفوا فيها الرجل، أو عايشوها أو رواها لهم مقربون منه.
حمل النعش عند نزوله من الطائرة على أكتاف عناصر من الحرس الرئاسي، ليستعرض المستقبلون الجنازة المحمولة، قبل وضعها في سيارة إسعاف، ومن ثم انطلق الموكب الجنائزي نحو الجامع العتيق المعروف بجامع بن عباس، الذي يتوسط "القريتين"، أي لكصر وكبتال، كما وصفه المرحوم بداه ولد البصيري يوم تدشينه فجر الاستقلال.
في باحة الجامع كانت الرهبة تسود المكان، فمراسم الجنائز الرسمية، طقس جديد علينا، ولا شك أنها أول جنازة رسمية كبيرة، تقام في موريتانيا المستقلة.
لا مجال طبعا لمقارنة هذه الجنازة، بما نشاهده يوميا من مواكب رسمية طويلة ومعقدة، تشهده مختلف دول العالم.
كما أنه لا مجال لمقارنتها بما عشناه عبر شاشات التلفاز،خلال السنوات السابقة فقط، من جنائز ممتدة في الزمان والمكان، وبحضور دولي كبير، وبزخم شعبي هادر، كجنازتي الملكين الراحلين الحسن الثاني والحسين بن طلال، ولا جنازة الرئيس السوري حافظ الأسد.
وليس من الوارد مقارنتها بمراسم وداع سمعنا عنها، أو قرأنا عنها، حدثت قبل عصر انتشار التلفزيون، مثل جنازة الزعيم المصري الراحل، جمال عبد الناصر.
كنا وما زلنا في موريتانيا، نتميز ببساطة المراسم وسرعتها، فالتعازي والجنازات كانت تتم وفق نسق تقليدي، يخلو من كثير من الترتيب والتعقيد.
وهذه نقطة نتشابه فيها مع بلدان الخليج العربي، حيث جرت جنازات الملوك السعوديين بطريقة بسيطة وخالية تقريبا من البروتوكول، وشاهدنا الأمر نفسه تقريبا في قطر والإمارات والبحرين والكويت، خلال مناسبات رحيل أمرائها ومسؤوليها الكبار.
ولا غرابة أن تكون هذه الروح النابعة من الخصوصية، والوفية للبساطة، الأثيرة عند الراحل المعروف بالزهد، هي الملمح الأبرز في وداع موريتانيا لأول رؤسائها.
بعد دقائق فقط من وصول الجنازة إلى الجامع العتيق، وصل الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطائع، في موكب رسمي، حيث قدم أولا واجب العزاء للعائلة، ممثلة في نجلي الراحل، وإخوته وأقاربه الحاضرين في الدائرة القريبة من الجنازة، قبل أن تبدأ صلاة الجنازة قبل الزوال.
في عين المكان حظيت بمكان في الصف الأول، غير بعيد من الجنازة، ولا شك أن المهنة لعبت لصالحي ذلك اليوم ، حيث أتاحت لي أن أكون هناك، مع كبار المشيعين يتقدمهم الرئيس معاوية ولد الطائع شخصيا، الذي كان يتأهب لخوض منافسة انتخابية جديدة تلك الأيام في طرفها الآخر، الرئيس أحمد ولد داداه، مع مرشحين آخرين.
كانت البلاد قد شهدت قبل أشهر محاولة انقلابية دموية، مست كبرياء الرئيس معاوية، في العمق، ففيما كان قد تصور أنه أرسى دعائم سلطته بقوة، وبات ما حققه حديث الناس، هاهو يواجه بتمرد حقيقي من ضباط شباب من المؤسسة التي حملته أصلا للسلطة، وظل يتوكأ عليها في حفظ نظامه واستقرار أركان حكمه.
ما جرح كبرياء الرجل أكثر من أي شيء في هذه المحاولة أنها اضطرته للخروج من القصر، ولو لساعات، وأفقدته السلطة بشكل فعلي، ليوم وبعض يوم.
وبعد أن تكفلت أخطاء الانقلابيين وارتباكهم وتتالي ردات الفعل غير المحسوبة، بإفشال المحاولة، اضطر الرئيس معاوية لــ"قيادة" معركة استعادة الشرعية من قيادة الحرس المتربة والمهملة على قارعة شارع منسي، في نواكشوط الفقير، بعيدا عن الجزء الباذخ من المدينة، ليعيش في ظل ذلك لحظات أزمة شخصية من الصعب تجاوز آثارها وتداعياتها بسهولة.
كانت صورة الرجل وتماسك نظامه وقدرته على الاستمرار، على المحك بشكل حقيقي، وكانت كل شعارات المرحلة السابقة، قد استهلكت بما فيه الكفاية، وكانت المرحلة الجديدة منفتحة الشهية، تبحث عن وقود للأيام الصعبة القادمة.
ولكن في نفس الوقت كان تأخير الانتخابات، وهي موعد كان محددا مسبقا، منذ فترة طويلة، كان سيرسل إشارات سلبية بخصوص نفسية الرئيس، ومزاج النظام، وثقة هياكله ومؤسساته في قدرتها على الصمود.
كانت المعارضة قد اشتدت في الخارج، خاصة من الجبهة الأوروبية، كما أن فرسان التغيير الذين قادوا محاولة يونيو الفاشلة، استطاعوا تقريبا الخروج بأغلب عناصرهم، نحو مناطق متعددة في إفريقيا، وباتوا يتلقون دعما متنوعا من جهات داخلية وخارجية مختلفة على خلاف مع نواكشوط والرئيس معاوية، خاصة لدى جماهيرية الزعيم الليبي معمرالقذافي، ومن قبل نظام بوركينافاسو بقيادة بليز كومباوري.
وكانت المعارضة الداخلية التي تتالت عليها الهزائم والضغوط على مدى سنوات، قبل أن تشعر بشيء من الزهو، بعد هذه المحاولة، تعيش نوعا من التشفي، في ظل نتائج انقلاب يونيو، وتشعر بنوع من الثقة في النفس في مواجهة نظام تتالت عليه الضربات، ويواجه ضغوطا داخلية وخارجية متزايدة.
وباتت هذه المعارضة، تحس بأنه ليس بينها وبين هزيمة نظام، طالما هزمها وأذلها، سوى صبر ساعة.
ولذلك قررت المشاركة في انتخابات أكتوبر، بعد مقاطعتها انتخابات سابقة متعددة.
في هذا المناخ النفسي الخاص، جاءت وفاة الرئيس المختار ولد داداه، أياما قليلة قبل انطلاق الحملة الممهدة للانتخابات الرئاسية لعام 2003.
وهي ظرفية ربما أملت "إخراج" الجنازة لتتم بطريقة مختلفة، عما كان سيحدث ، على الأرجح، لو كنا حينها خارج موسم انتخابي ساخن، يتردد في سمائه صدى محاولة الثامن يونيو الفاشلة، قبل ذلك بأشهر قليلة، والاحتقان غير المسبوق في المشهد الداخلي.
لعبت كل تلك الظروف وغيرها، لكي يحظى الحدث بعناية أكبر، تجلت في تنظيم جنازة رسمية يحضرها الرئيس وكبار المسؤولين، وجموع كبيرة من سكان العاصمة، إضافة طبعا لحداد وطني من ثلاثة أيام.
كانت تلك أول جنازة رسمية في تاريخ البلاد الحديث، لعبت السياسة الآنية وقتها دورها في إقامتها ..
وهذا ربما يفسر تأخر قرار تنظيمها على النحو الذي تمت به في النهاية، ويكفي للدلالة على الارتباك الذي اكتنف عملية التحضير لتنظيم الجنازة، أن الوزير الأول حينها اسغير ولد امبارك، اضطر للعودة من سفر إلى مدينة بوغي، وكنت ضمن مرافقيه، قبل أن يصلها، لحضور الجنازة التي تقررت- على ما يبدو- بعد مغادرته العاصمة صباحا.
كان يوما سياسيا بامتياز، حرص فيه الرئيس المترشح معاوية ولد الطائع ، على أن يسجل نقاطا في شباك خصومه، عبر استمالة ناخبين محتملين، في صفوف من يكنون تقديرا خاصا للرئيس المؤسس، ومن يشعرون بالحنين والانتماء لعهده، عبر التكفل بنقل جثمانه وإقامة جنازة رسمية تليق بأب الأمة.
الرئيس أحمد ولد داداه الذي اضطر لحضور المراسم المقامة لوداع أخيه، عبر هذه الجنازة الرسمية، تجنب بمهارة ومجهود كبيرين، وضعه في خانة محاولات الاستغلال السياسي للمناسبة.
وحتى اللحظات الأخيرة قبل نقل الجثمان إلى مقبرة البعلاتية، في ضواحي بوتلميت، مسقط رأس الراحل حيث ووري الثرى في النهاية، ظلت السياسة تُناور، وتحاول إيقاع أحد الطرفين في شراك الآخر.
ولعل اللقطات الأخيرة من مشهد الجنازة، قبل انطلاقها نحو البعلاتية، تلخص مستوى الجرعة السياسية المرتفع في كل المراسم المقامة بالمناسبة، فقد تنبه الرئيس معاوية في خضم وداع الجنازة، إلى وجود الرئيس أحمد ولد داداه "محاصرا" من قبل عناصر الأمن، مما جعله عاجزا عن الوصول إلى السيارة التي ستقل الجثمان، فبادر بمد يده نحوه، ما جعل عناصر الأمن، يفسحون الطريق له لعبور الطوق الأمني.
رغم كل مناورات السياسة ومحاولات توظيفها لكل تفاصيل المشهد الحزين، فقد كان يوم حزن عظيم، فالبلاد تودع من اقترن طويلا اسمها به، رئيسا وربانا لسفينة وجودها، و تجسيد شخصيتها السياسية المعاصرة بين بلدان العالم.
ولا شك أن موريتانيا السياسية، وهي تواري جثمان الرئيس الأسبق الثرى في يوم مشهود، رغم أنه جمعها على صعيد واحد، ولو لساعات، لم تستطع أن تدفن مع ذلك خلافاتها حول تاريخ الرجل ومسيرته السياسية، ودوره في تأسيس الدولة الحديثة، في هذه الصحراء القاحلة، التي لم تنجب الكثير من الكيانات السياسية طيلة تاريخها الموثق.
........
* أدركت الكبار حين يتحدثون عنه لا يزيدونه رحمه الله على المختار، وربما فخم بعضهم التاء لتصبح طاء.. ولا يحتاج لنسبته، ولا إلصاق أي صفة باسمه..