هل تدرس العلوم باللغة الأصلية للمتلقي؟ أم باللغة المستحوذة على البحوث العلمية في الوقت الحاضر؟ سؤال يطرحه صالح الشاعرالحديث عن التعليم حديث عن نوع خاص من التواصل، يتفق مع جميع أنواع التواصل بوجود المرسل والمستقبل والوسيلة والرسالة، لكنه يختلف عنها من حيث إنه لا يعتمد في وسيلته على شكل واحد منها –كالكلام مثلا- بل يجمع بين المحاضرة والكتابة والمناقشة والعصف الذهني والوسائل المسموعة والمرئية، وغيرها من الوسائل، بما يجعله في المقدمة من أساليب نقل العلوم.ودوران الحديث هنا حول التعليم لا يعني أنه المجال الوحيد لنقل العلوم أو التواصل في المجال العلمي، فبجانب التعليم هناك البحث العلمي، وهناك الإعلام العلمي بأنواعه، غير أن التعليم أوسع مجالا، وأكثر تأثيرًا؛ لأنه يبدأ في سن مبكرة، ويمثل حجر الأساس الذي يُبنى عليه بعد ذلك الإعلام والبحث العلمي.
وقد عرِّف الاتصال التعليمي بأنه: ”عملية تفاعل مشتركة بالرموز اللفظية وغير اللفظية بين المعلم والمتعلم، حيث يقدم الأول خبرات تعليمية (معرفية ومهارية ووجدانية) من خلال القنوات المناسبة بغرض تحقيق نتاجات تعليمية مرضية“.ويعني ذلك أن عملية التعليم عملية (تفاعلية، دائرية، متنوعة)، أي أنها تقوم على التفاعل بين المرسل والمتلقي، ولا تسير في اتجاه واحد، ولا تقتصر على اللغة اللفظية.
الاطلاع على المستجدات العلمية والبحثية مستحيل بغير إتقان اللغة الإنجليزية
هذه السمات تجعل جدوى تدريس العلوم بلغة غير اللغة الأصلية للمتلقي محل شك، وتوجب البحث لتقرير الاستمرار في التعليم عن طريقها أو الاستبدال بها؛ إذ إن التواصل حين يُبنى على ”ترجمة ذهنية غير ظاهرة لمفردات لا تمت دومًا بصلة إلى خبرة المتعلِّم أو حتى إلى خلفيته اللغوية“[1]، يؤدي إلى أحد احتمالين: فإما أن يبقى التواصل ناقصًا، ونقع عمليا في ’ببغائية‘ امتلاك المعلومة.
أو أن يُستغنى عن اللغة عمليًّا، ويُستبدل بها خليط لغوي يسعى المتحدثان من خلاله إلى التعويض عن النقص في التواصل الحاصل فعلا بينهما.[2]ولهذا كان تعريب العلوم يمثل مطلبا ضروريا، بحيث تردم تلك الفجوة بين التعلُّم والإبداع، فتعلُّم العلوم بغير اللغة الأم للمتلقي لن يتيح له –في الغالب- فرصة للإضافة، ولن يمضي به إلى مستوى متقدم، بل العكس هو الصحيح.والمثال العملي على ذلك، أن كوريا الجنوبية -التي تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث نصيب الفرد من براءات الاختراع- تدرس العلوم بلغتها، وكان من أهم نتائج ذلك زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل إلى 22 ألف دولار في العام.[3]فالفهم والاستيعاب، ثم التعبير، وأخيرًا الإبداع، كلها تبقى ناقصة في حالة التعليم بغير اللغة الأم.ولنا في التجربة السورية لتعليم الطب باللغة العربية شاهد ومثال؛ حيث أشاد الخبراء به، يقول الدكتور زهير أحمد السباعي في كتابه ’تجربتي في تعليم الطب باللغة العربية‘ ما مفاده: إن مستوى الأطباء السوريين في امتحان المجلس التعليمي للأطباء الأجانب -الذي يُعقد باللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة الأمريكية- لا يقل عن مستوى زملائهم الأطباء في مختلف أنحاء العالم، أي أن تعلم الطب باللغة العربية لم يكن عائقاً أمام الأطباء السوريين يحول دون أدائهم للامتحان واجتيازهم له بنجاح.كانت هذه التجربة الناجحة حافزًا للتوصيات المتتالية بتعريب العلوم الطبية في اجتماعات مثل: ندوة تعريب التعليم الطبي والصحي (دمشق، 1988)، والمؤتمر الإقليمي لتعريب الطب (القاهرة، 1999)، والقمة العربية (دمشق، 2008)، ومؤتمر القمة (الدوحة، 2009)، وأعلنت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) قبل نحو خمس سنوات إطلاق مشروع تعريب التعليم في الوطن العربي!ولكن يبدو أن تلك المجالس والإعلانات والتوصيات تقف أمامها المؤسسات اللغوية العربية العاجزة حجر عثرة، بدلا من دعمها وإخراجها إلى حيز التنفيذ، وربما آن الأوان لإعادة تقييمها والنظر في جدواها ومدى فاعليتها في تقدم اللغة وقوتها؛ إذ يبدو أنها اكتفت بعمل المعاجم وإلقائها في الأضابير، وإقامة مؤتمرات فخمة من آن لآخر، دونما أثر عملي ملموس، ودونما خطوات عملية لتمكين اللغة العربية.مجمل القول في هذا الاتجاه أنه ليس سهلا، وهو حتى الآن كلام في المطلق، لم تُتخذ لتنفيذه خطوات عملية، كما أنه ليس بدعًا، ولسنا الوحيدين في هذا المضمار، فهناك اتجاه إلى النشر العلمي باللغات المحلية في العديد من الدول، هولندا وإيطاليا والبرتغال على سبيل المثال، غير أن هذا الاتجاه يبدو بارزًا في بعض التخصصات دون الآخر، ولم يصل بعد إلى كسر هيمنة الإنجليزية في البحث العلمي.[4]
تعريب العلوم يمثل مطلبا ضروريا، بحيث تردم تلك الفجوة بين التعلُّم والإبداع
ولتعريب العلوم –إضافة إلى فوائده العديدة- فائدة أخرى، فلو سلَّمنا بتغلُّب الباحثين والعلماء على عقبة اللغة، وإتقانهم التعلُّم والبحث باللغة الإنجليزية، فأنَّى تنتقل الخبرة والمعرفة إلى مَن هو دونهم من الفنيين والحرفيين؛ لتكتمل بذلك الدورة العملية للعلوم والمعارف فتؤتي ثمارها؟كما أن هذا التعريب سيتيح للإعلام العلمي فرصة أفضل للنمو والتأثير، باستبعاد حاجز اللغة الذي أظنه معوقًا لكثير من العاملين في المجال الإعلامي، ومثبطًا لهم عن الدخول إلى هذا الفرع المهم من الإعلام.مسايرة الواقع بلا تبعيةعلى الجانب الآخر، تبرز حقيقة أن ”96% من المقالات العلمية في العالم مكتوبة باللغة الإنجليزية“.[5] وهي واقع لا يُنكَر، بل المطلوب –في وجهة نظري- ترتيب الأفكار وتنظيم الخطوات للتعامل مع هذا الواقع. والتعامل معه حتمي؛ لأن الاطلاع على المستجدات العلمية والبحثية في هذه الحالة مستحيل بغير إتقان اللغة الإنجليزية، المستحوذة على النشر العلمي، والتواصل مع الأقران في التخصصات المختلفة وإقامة حوار علمي معهم خارج إطار هذه اللغة يعد ضربًا من المستحيل.والحقيقة أن إثارة هذه النقطة تستدعي نقطة أخرى، فحين ننظر إلى لغة التواصل العلمي العربية السائدة في الدول العربية نجدها تختلف عن لغة العامَّة، نظرًا للازدواجية اللغوية التي نعيشها، بل إن تعليم اللغة العربية في العالم العربي عمومًا يكاد يدخل تحت نطاق ’تعليم لغة ثانية‘،
وهذا ما يجعلنا لا نرى غضاضة في حتمية إتقان اللغة الإنجليزية باعتباره ضرورة لمتابعة المستجد في العلوم.وأميل إلى القول بأن إتقان الإنجليزية إلى جانب الإجادة التامة للغة الأم لن يحمل في طياته صورة للتخلف أو التبعية؛ فالاتجاه إلى إتقان لغات أخرى أصبح اتجاهًا عالميَّا، كما يوحي بذلك مقال نُشر آنفًا في نيويورك تايمز، توصي فيه دول الاتحاد الأوروبي بإتقان لغتين أجنبيتين إلى جانب اللغة الأم.[6]وحتى إن السير باتجاه تعريب العلوم تلزمه قدرات لغوية مؤسسية تجمع الإتقان مع السرعة في النقل عن اللغة الإنجليزية؛ لمواكبة المنشور بالإنجليزية مما هو جديد ومستحدث في البحث العلمي، بما يعني أن إتقانها ضروري لإنجاز خطوات مهمة في تعريب العلوم.وللمتشائمين أقول: إنه لولا دار الحكمة وحركة الترجمة في العصر العباسي لما ازدهرت العلوم والمعارف في ذلك العصر؛حيث نقلوا منها ما سبقهم به الآخرون، ثم طوروا واستحدثوا وبنوا عليه، وما ذلك بعيب لو استطعنا فعل مثله في عصرنا الحالي، إنما العيب أن تظلَّ وراء الرَّكب تدَّعي الريادة! هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط