عندما علمت بوفاة المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله تذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ) ، فارتحت كثيرا ، لأن الرجل كان من قامات الأخلاق السامية ، و الطباع الهادئة ، و القيم الراقية…
سأتحدث في هذه السطور عن رجل رأيته ، و جالسته ، و سمعت منه ، و استمع إلي ، حاورني و حاورته ، مازحني و مازحته ، عن رجل عرفته و ليس عن رجل سمعت عنه…
بحكم العلاقات المتداخلة ، التي يشد بعضها بعضا ، سمح لي الزمن و إنه لضنين أن أقترب من هذا الرجل في بعد ، و أن أبتعد عنه في قرب ، نعم ، نعم ، الرجل خالي بلغة الأخلاق ، و هو بلغة الفقه و الحساب ابن خال أمي ، نسكن في حيين منفصلين في اتصال ، و في زمنين متصلين في انفصال… عرفته مبكرا عندما كان يأتي للسلام و صلة الأرحام في أغشوركيت …
لا تسأل عن محياه فهو
طلق ، و لا عن وجهه فهو صبوح ، و لا عن ابتسامته فهي حانية ، يحب الفقراء ، و الضعفاء ، رقيق الطبع ، شديد التواضع…و كيف لا يكون ذلك كله كذلك و قد تربى في حضن أبوين (ترجع التاديت) لكل منهما في حسن الأخلاق و حلاوة الطباع : والده الشيخ عبد الله و والدته امين بنت محمدا..
سأذكر نقاطا قليلة و متفرقة لا تخضع لمنهج سردي واحد ، عشتها شخصيا مع المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله :
في بداية الثمانينات رحلنا إلى نواكشوط (أمي و أنا و أخواتي ) لمواصلة دراسة البنات ، و مثل فقراء البلد استقررنا في مدينه R ، و هي للذين لم يدركوا تلك الفترة و لم يعرفوا تلك الحياة ، حي شعبي مزدحم ، قبيح ، يعشعش فيه البؤس و الفقر ، تحاصره سيول أوساخ الغسالين ، يعج بخلايا التكوين العقدي للتنظيمات السرية ، و أغاني فهد بلان و صور سميرة توفيق و وردة الجزائرية ملصقات على أبواب دكاكين الطرب ، لا تخلو مراحيضه اليتيمة من لوائح انتظار ، استأجرنا بيتين منفصلين في مساحة واحدة يفصل بينهما عريش بائعة طعام يعيش فيه قطيع من البط البري و فراخه لا يتوقف سلحه ، و كباش تتصارع ، و أعنز تئن باستمرار ، و فوق سقف العريش أهرام من الأواني الصدئة لا يهدأ صخبها كلما ودعت راحلة ، أو استقبلت وافدة…حتى أنا كنت أرفض اصطحاب زملائي في الدراسة لأني أكره أن يروا فاقتنا ، و تردي الوسط الذي نعيش فيه…
كان المرحوم سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لا ينقطع عن زيارتنا واصلا و ملاطفا ، ولم يفوت أبدا عبارته كلما اكتملت كؤوس الشاي : (هذا فتبارك الله أتاي زين وهذا السكن املي امونك آن ذلي نجبر من الراحه و التمانوكت هون فاصل فيه) ،
حدثتني الوالدة أنه أصر مرة رغم مشاغله على أن يُريَها اللبن الضخم الذي كانت الصين تضربه لبناء الميناء ، في رحلة سياحية لم تبد أي رغبة فيها ، و أي بدوية تعير اهتماما لهذه الأشياء ، لكن كرم الرجل و لطفه و حبه إفراح الغير لا ينتظر الظروف ، و لا يشترط الرغبة
…
* زرته مرة في منزله ، وسألني عن أحوال انواكشوط ، فقلت له ممازحا (نحن مان في نواكشوط) فاستغرب و قال (انتوم امنين)، قلت له (نحن في مدين R) …
فضحك في بساطة طبع ، وطيب طوية…
* سنة 1988 تعرض خالي و صديقه الحاج أحمد ولد الندى لحادث سير خطير ، و جاء سيدي للسلام عليه و لما رآه أراد أن يعجل بعض الإجراءات و فاجأني خروجه و سيره في أروقة المستشفى حافي القدمين فاضطررت أن أبحث عنه كي يلبس نعليه ، ثم طلب مني أن أرافقه لاستصدار وثيقة ضمانة ، و لما ركبنا في سيارة 504 صغيرة – و كنا وحدنا – سألني عمن يستطيع استصادرها فقلت له أما أنا فنكرة لا أهتدي في مكاتب الدولة ولا أصلح إلا لهذا الركوب ، فذهبنا إلى وزارة الصيد و قال لي سنبقى في السيارة حتى يخرج من أستطيع أن أطلب منه إخبار صديقي المصطفى ولد لحبيب بوجودي هنا ، لم يطل انتظارنا و حضر الرجل و تكفل بالمطلوب..
* في بداية الحياة السياسة التقينا في لمدن وقال لنا أرجو أن تكونوا جميعا استجبتم لقناعاتكم السياسية بعيدا عن الضغط القبلي ، فقال له المرحوم محفوظ ولد الندى هذا ما حصل : (هذا محمد عبد الله ولد حيبلت في المعارضة و هذا الشيخ سيد المختار ولد الشيخ عبد الله في الحزب الجمهوري و هذا المرتضى في التحالف ، و أنا من حزب ول سيدي بابه لأن فيه الحاج احمد ولد الندى وان الحاج احمد نختيرو عن إجيجبه كامله..ههه)
* بعد الانقلاب عليه زرته في لمدن ، و قلت للعاملة المنزلية أخبري سيدي أن فلانا جاء للسلام عليه ، فخرج إلي مسرعا و صافحني في انحناء ثم عانقني ، هل رأيتم كبيرا ينحني لصغير !! نعم إذا كان الكبير كبيرا انحنى عطفا و حدبا ، انحناءة الكبير ارتفاع ، و شموخ و تحليق في فضاء السكينة و الوقار…
كان من حظي في ذلك اليوم أني وجدت الرجل وحيدا ، لأن جميع أهل القرية مشغولون في تجمع خاص ،
و قال لي فلان (انت اياك مانك عجلان اندوروك اتكيل امعان؟) ،قلت له لست عجلان لكنني (ماني امكيل امعاكم) ،، و بدأنا حديثا و حوارا هذا نصه :
* قال لي ما هي و ضعية التعليم الآن ؟ قلت له هو في أسوإ حال ، برامج لا تواكب الحياة ، و لا تخدم الخصوصية الحضارية و التاريخية للبلد و مستويات مادية متردية لأهل القطاع..و بنى تحتية لا تصلح لسجن الكلاب..
* قال لي : في بداية الثمانينات اكتشفت مؤشرا خطيرا لما تحدثت عنه الآن، أنا مقتنع أن كل تنمية و كل نهضة و كل رخاء مرتبط بالتعليم ، لكن حادثة وقعت أمامي في تلك الفترة أقلقتني كثيرا على مستقبل التعليم ، فكنت كمن كان يراهن على كنز يخفيه لوقت الحاجة و عندما تفقده وجده تالفا ، و روى لي قصة خاصة بين معلم طلب من تلميذ أن يحمله معه في السيارة التي يقودها أبوه فقال التلميذ للمعلم (اركب اللوره الكدام ليه يركب فيه صاحبي) ، و أردف سيدي قائلا (شفت هذا يخوي هذا ينكال للمعلمين ؟) ، قلت له المخطئ هو المعلم كيف يسقط و تهون عليه نفسه فيتوسل إلى تلميذ ليحمله في سيارة أهله ، نحن متفقان في نذير الفساد ، لكن لا ينبغي للمعلم أبدا و مهما كانت الظروف أن يكون ضعيفا أمام التلميذ ، يجب أن يبقى المعلم هو القدوة ، و هو الأقوى ، و هو الأغنى ، و أن يقنع التلاميذ أنهم هم الفقراء إليه…أصغى المرحوم إلي جيدا في انتباه و قال صدقت ، إذن نحن الاثنان صادقان…
* سألني عن ثانوية ألاك ، قلت أنا الآن في مؤسسة أغشوركيت و قادم إليها من ثانوية بوتلميت ..فقال لي متى تحولت إلى بوتلميت و لماذا …قلت له مستغربا : لستم على علم بضجة تحويلات مسؤولي التعليم عن مدنهم الأصلية ؟ فأجابني في اندهاش لا ، لم أسمع بهذا قبل الآن …و أضاف أنه لا يتدخل في أمور الوزراء..
* و أضاف أن قرار تحويل المسؤول عن مدينته كان يخص الإداريين من حكام و ولاة و أنه اتخذ في عهد المرحوم المختار ولد داداه خوفا من النزاعات القبلية على الأرض و تدخل المسؤولين لصالح قبائلهم…
قلت له ممازحا إن بعض زملائنا قال في أروقة وزارة التهذيب إن الرئيس سيد ولد الشيخ عبد الله أعطى أوامر لنبغوها منت حابه بتحويل المرتضى و محمد ولد حامد و محمد يعقوب ولد الغلاوي إلى بتلميت ، و أن كل مسؤولي التعليم من (إجيجبه) حولوا إلى مناطق مرضية على حساب الآخرين…ضحك رحمه الله وقال لي (هذا انكال ابصيفتوذي ؟ ألا يالل نحن كاملين نسمحو الذو الي كالوه…)…
* و أردف : أنا أمرت المعنيين أن يشرعوا في إصلاح التعليم و حل مشكلة اللغة بسرعة، و رد علي بعضهم أن ذلك ستنجر عنه مشاكل و اضطرابات ، فقلت لهم إني أتحمل المسؤولية عن ذلك ، ثم سبق ما كان ، ما كنا ننوي أن يكون…
* سألني هل صحيح أن الولاة يتدخلون في تحويل المدرسين حسب العلاقات ،،
* أجبته أن الولاة يفعلون ما يشاؤون ، ولكنهم ليسوا وحدهم لأن الأوامر تصدر إليهم من جهات عليا…
و جاء دوري في الأسئلة ، ففرحت و حزنت ، حزنت لأن المرحوم سيدي مجبول على حسن الإصغاء ، مهما كان عقل محدثه و مستوى كلامه ، وتدني أفكاره ، يريك رغبة في الاستماع إليك تتوهم بها أنك تفيده في الأمر الذي هو به منك أدرى ..
و فرحت لإتاحة الفرصة لي كي أسأل و أستفيد…
* قلت له إني قرأت في صحيفة ورقية قديمة أنه لم يستجب بسرعة لدخول حكومة معاوية ولد سيد أحمد الطايع و تأخر في الرد على مدير الديوان ، فهل هذا صحيح ….
* فقال : إن الديوان اتصل به و عرض عليه رغبة معاوية في إسناده حقيبة وزارية ، لكنه طلب فترة ليفكر في الأمر ، ثم اتصل به معاوية نفسه و قال له أنت إلذاك كدامك برو عبد الله أران عيناه)…وعلق سيدي بأن معاوية (كاريه ) بتعيين عبد الله بارو لأنه صديقه و من العهد القديم…
ثم أردف :
* سأحكي لك طرفة يا فلان : عندما دخلت الحكومة كنت غريبا فيها نظرا لعامل السن ، كنت لا أعرف من الوزراء إلا – أظن أنه قال لي – بابالي…و انتبهت إلى أمر خطير ، و هو أن بعض المسؤولين ينتهزون فرص الأعياد الرسمية للدول الأجنبية ، و عندما تكلفهم الدولة بحضور تلك الاحتفالات في السفارات يستغلونها لمآرب خاصة ، و طلبت من الرئيس معاوية الانتباه إلى ذلك محافظة على سمعة البلد ، ففاجأني معاوية في أول اجتماع للحكومة بعد لقائنا بأمر مضحك و محرج ، قال للحكومة (هييه اصنتولي لا تل حد فر إكيس الاحتفالات في السفارات ، لا اتل يمش ماهو سيدي هذا و الل بارو……الخ.)
* ثم سألته عن الانقلاب عليه ،
* فقال لي ماذا تريد من التفاصيل ؟
* فقلت له تفاصيل اليوم الأول ، كيف علمتم؟ ماذا فعلتم؟..
* فأجابني : جاءني ضابط (لا أذكر هل قال لي قبل الفطور أو بعده) و قال لي : السيد الرئيس عزيز يريدك
* قلت له : قل لمحمد ولد عبد العزيز إنه هو الذي عليه أن يحضر إلي إذا كانت له حاجة…
* فطأطأ رأسه بأدب وقال : السيد الرئيس ، عزيز أمرني أن أحضرك قالها محرجا مستاء ، هنا تأثر بعض أفراد الأسرة و توسلوا إلي أن أرافق الضابط ففعلت…
استقبلني محمد ولد عبد العزيز في الساحة و قال لي : السيد الرئيس وقعوا قرار إلغاء تلك المراسيم التي أصدرتم و ينتهي كل شيء..
قلت له إني أرفض التراجع عن صلاحياتي…
فقال : السيد الرئيس أخاف أن تتسبب تلك القرارات في نزيف دماء..
قلت له : كل قطرة دم تسيل هي مسؤوليتك أنت…
فانصرف و أمر الضابط باصطحابي إلى بناية مكاتب حراسة الرؤساء (بازب)…و جلست على مقعد و رأيت كتابا عربيا في النقد الأدبي فتناولته و بدأت في تصفحه ، ثم ذهبوا بي إلى مكان آخر و بسطوا لي فراشا ، (مطله ) نمت عليها حتى المساء ، و كنت محتاجا إلى الراحة ، ثم حولوني إلى مقر إقامة محترم ، و عاملوني جميعا باحترام و تقدير حتى خرجت…
رحم الله والدنا و خالنا سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله رحمة واسعة…