على غرار حكمه غير الشفاف والأكثر اضطرابا في القارة الأفريقية، لا تزال ظروف وفاة الرئيس التشادي إدريس ديبي التي أعلنها الجيش يوم الثلاثاء غير واضحة، وإن كان رسميا توفي متأثرا بجراح أصيب بها في القتال خلال عطلة نهاية الأسبوع.
هكذا وصف موقع ميديا بارت (Mediapart) الفرنسي وفاة ديبي (68 عاما) في يوم انتصاره الذي كان من المقرر أن يحتفل فيه بإعادة انتخابه رئيسا لتشاد، للمرة السادسة منذ توليه السلطة بانقلاب عسكري في ديسمبر/كانون الأول 1990.
غير أن الرئيس كان يحتضر إن لم يكن قد مات بالفعل، وذلك -بحسب الموقع- في اللحظة التي كان فيها سيقدم نفسه فائزا بنسبة تقارب 80% من الأصوات، في انتخابات دون منافسة نتائجها معروفة مسبقا مثل سابقاتها، وفي جو صارم من كبت الحريات العامة.
وفي يوم الانتخابات الرئاسية 11 أبريل/نيسان، واجه نظام ديبي تمردا جديدا بقيادة "جبهة من أجل التناوب والوفاق في تشاد"، وهي حركة معارضة مسلحة تتكون أساسا من قبائل غوران التشادية، ويوجد مقرها في جنوب ليبيا منذ عدة سنوات.
روايات لحادث واحد
وتتكون هذه المجموعة من ألف أو 1500 مقاتل وفقا لمصادر ميديا بارت، ولديها ترسانة هائلة وموارد مالية كبيرة جمعتها في السنوات الأخيرة، عندما كانت تخدم معسكر اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر في سعيه للسلطة في ليبيا بدعم من حلفاء أقوياء، من ضمنهم الإمارات وروسيا.
وقد سمح التحالف مع حفتر للجماعة التي يقودها محمد مهدي علي بتخزين كمية من الأسلحة تحسدها عليها الجماعات التشادية المتمردة الأخرى في المنفى، والتي يقول أحد زعمائها متحدثا عن محمد مهدي إن "لديه موارد ضخمة، وهذا ما جعله يدخل وحده في مغامرته دون أن يخبرنا"، وربما يكون ذلك أيضا هو السبب في تقدمه بسرعة كبيرة باتجاه جنوب البلاد، على الرغم من قصف الجيش التشادي، كما يقول الموقع.
التقت قوات المتمردين مع الجيش التشادي ودارت بينهما معارك دامية في كانم، على بعد حوالي 400 كيلومتر من العاصمة نجامينا، أسفرت -بحسب الجيش- عن قتل وأسر مئات المتمردين، وعن نصر مؤزر وتحرير كانم بحسب المتمردين، وإن كانت الخسائر من كلا الجانبين كبيرة في الواقع، ولم يحقق أي من الطرفين نصرا مؤزرا، بحسب الموقع.
ودارت معارك جديدة في اليوم التالي وبنفس النتيجة، فقرر ديبي -بحسب ما ورد من أنباء- الذهاب إلى الجبهة كما فعل العام الماضي في منطقة بحيرة تشاد ضد مقاتلي بوكو حرام، وذلك "لتحفيز قواته" كما قال أحد أفراد حاشيته، و"لتنفيذ عمليات" كما قال أحد الجنود، وهناك أصيب، وإن كانت الروايات غير متطابقة في هذا الجانب من القصة.
فوفقا لمصدر مقرب في مجتمع الزغاوة الذي ينتمي إليه ديبي، كان الرئيس على الخطوط الأمامية فجر يوم الاثنين عندما هاجمه المتمردون على حين غرة، وأصابوه وقتلوا عددا من الحرس الرئاسي، وفي بيان لاحق زعم المتمردون قتل 7 وجرح 8 آخرين من بينهم ديبي الذي ورد أنه أصيب برصاصة في رأسه، ونقل إلى العاصمة في حوامة.
وشبّه موقع ميديا بارت هذه الرواية بتلك التي قدمها الجيش، قائلا إن "مشير تشاد إدريس ديبي إيتنو، كما يفعل كلما تعرضت المؤسسات الجمهورية لتهديد خطير، تولى قيادة العمليات خلال المعركة البطولية ضد جحافل الإرهابيين القادمين من ليبيا، وقد أصيب في الاشتباكات وأسلم روحه عندما أعيد إلى نجامينا".
لكن مصادر أخرى مقربة من داخل مجتمع الزغاوة تروي قصة مختلفة تماما، إذ يقول البعض إنه وصل إلى ساحة المعركة ولم يصب بأذى، ويقول آخرون إنه لم يصل إلى كانم، وإنه تعرض لإصابة في المعدة يوم الأحد، وفي كلتا الحالتين، قيل إنه قُتل على يد حاشيته.
وأشار الموقع في هذا السياق إلى أن مجتمع الزغاوة الذي يسيطر على التسلسل الهرمي العسكري في تشاد، منقسم بشدة منذ عدة سنوات، حتى إن أبناء عم ديبي شنوا هجوما في يناير/كانون الثاني 2019، كان من الممكن أن ينجح لو لم تتدخل فرنسا، ومنذ ذلك الوقت قرر جزء من الزغاوة التخلي عن ديبي.
مجرد انقلاب
وفي مثل هذه الظروف تكثر التكهنات -كما يقول الموقع- وتتضارب، إلا أن المؤكد هو أن المقربين من ديبي لم يفقدوا السيطرة، والدليل أن المتحدث باسم الجيش اللواء عظيم برماندوا أغونا الذي أعلن -فور إعلان وفاة الرئيس- حل الحكومة والبرلمان، أعلن عن إنشاء مجلس عسكري انتقالي يتألف من 15 ضابطا، بينهم 8 من الزغاوة، وبرئاسة محمد إدريس ديبي نجل الرئيس الراحل.
وبحسب العديد من المراقبين، فإن ما حدث في تشاد مجرد انقلاب، لأن الدستور ينص على أنه في حالة شغور السلطة، يحل رئيس الجمعية الوطنية محل الرئيس بشكل مؤقت، وتجرى انتخابات رئاسية جديدة خلال 45 يوما على الأقل، و90 على الأكثر من تاريخ الشغور.
وفي مواجهة تمزق النظام الدستوري، يثير موقف فرنسا السلبي من تقدم المتمردين -على عكس تدخلها السريع عام 2019- العديد من الأسئلة، وقد أصدر الإليزيه بعد ساعات قليلة من إعلان وفاة ديبي بيانا صحفيا يجاري مسار الأحداث، قال فيه إن "تشاد تفقد جنديا عظيما ورئيسا عمل دون كلل من أجل أمن البلاد واستقرار المنطقة، وفرنسا تفقد صديقا شجاعا".
ولم تدن الرئاسة الفرنسية ما حدث، واكتفت بالتنبيه إلى ضرورة أن يتم التحول الجاري على يد المجلس العسكري في ظل ظروف سلمية، وبروح من الحوار مع جميع الجهات الفاعلة في المجتمع السياسي والمدني، والعودة إلى الحكم القائم على المؤسسات المدنية.
ومن جهتها، دافعت وزيرة القوات المسلحة الفرنسية فلورنس بارلي -في تغريدة- عن "إقامة عملية انتقال ديمقراطي"، أما وزير الخارجية جان إيف لودريان الذي أقام علاقات صداقة مع ديبي، فقد دعا إلى انتقال عسكري "محدود المدة" وتشكيل حكومة مدنية وشاملة.