لم يتضح لحد كتابة هذه السطور ما يسمح بتقديم معطيات تحليلية كافية عما يجري في الشقيقة مالي بعد تواتر الأنباء عن وضع الرئيس الانتقالي باه نضاو ورئيس حكومته مختار وان رهن الاعتقال من طرف مجموعة من الضباط على خلفية إبعاد قادة عسكريين من التشكيلة الحكومية الجديدة، إلا أن مجريات الأحداث في الآونة الأخيرة كانت تتسم بملامح أزمة سياسية من مظاهرها الرئيسية ضعف تماسك وانسجام الحكومة وضعف الظهير السياسي المدني المناصر لها، وهو ما يجعل احتمال العودة لمربع التأزيم السياسي أمرا واردا.
وصل العسكر السلطة قبل أزيد من تسعة أشهر بعد ثورة شعبية مطالبة برحيل الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا، ورغم نجاح قادة العسكر في تجنيب البلاد للعقوبات الإقليمية والدولية إلا أنهم أخفقوا في امتصاص الجبهة الداخلية وإشراك القوي السياسية والمدنية الرئيسية في تسيير المرحلة الانتقالية مما تسبب في وجود قوي سياسية عريضة تجاهر بمعارضة قادة المرحلة الانتقالية وتطالب بإصلاحات سياسية واسعة للمسار الانتقالي وتوسيع المشاركة في تسييره.
ويمكن إجمال خلفيات ودوافع الأزمة الراهنة في النقاط التالية:
- إشكالية النظام ذي الرأسين: عندما أطاحت مجموعة الضباط الشباب بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا وقع اختيارها على العقيد آسمي اغويتا لإدارة المرحلة الانتقالية، غير أن القوى الإقليمية المعارضة للانقلاب اشترطت تنحية اغويتا عن إدارة سدة الحكم مقابل تولي شخصية مدنية لإدارة المرحلة الانتقالية على أن يكون العقيد آغويتا نائبا له. لكن هذه التسوية السياسية رأى الكثير من المراقبين ساعتها أنها تحمل في طياتها نذر أزمة سياسية مؤجلة وقابلة للانفجار في أية لحظة. فالانقلابيون لن يقبلوا لزعيهم الدور الهامشي الذي تمنحه له صلاحياته كنائب للرئيس، كما أن الرئيس باه انضاو المتقاعد من الجيش والمشهود له بالصرامة والنفوذ والاستقامة لن يقبل هو الآخر أن يكون ألعوبة في أيدي مجموعة الضباط الصغار. ومع الأيام بدأت التسريبات والقرائن تؤكد صدق هذا التنبؤ، حيث اتضح أن الرئيس ووزيره الأول ليسا على قلب رجل واحد مع نائب الرئيس العقيد آسمي أغويتا.
- ضعف استيعاب القوي السياسية والمجتمع المدني: من نقاط ضعف حكام المرحلة الانتقالية في مالي تهميش الأحزاب السياسية والفاعلين الرئيسيين في المجتمع المدني وضعف إشراكهم في تسيير المرحلة الانتقالية، ولعل من أكبر الأخطاء التي وقع فيها الانقلابيون تهميش وتجاوز الأحزاب السياسية التي ساهمت في إسقاط الرئيس إبراهيم كيتا، والتي تعتبر أن جهدها السياسي هو الذي هيأ لانقلاب الجيش. فأحزاب حراك 5 يونيو، الذي طالب بالإطاحة بكيتا، ظلت متمسكة بمواقف معارضة للمرحلة الانتقالية وتتهم حكامها بخلق أجواء للأزمات السياسية والاجتماعية، وذلك بالتغييب الممنهج للفاعلين السياسيين عن القضايا الكبرى للبلد. وينسحب نفس الشيء على الاتحاد العام للعمال بمالي، الذي أدخل البلاد في سلسلة من الإضرابات شلت حركة عمل الجهاز التنفيذي في الدولة احتجاجا على ما يعتبره ضعف تجاوب حكام المرحلة الانتقالية مع مطالب واهتمامات الشغيلة بمالي.
- خوف الانقلابيين من سيناريو مصير النقيب صانوغو وجماعته: ثمة أسباب كثيرة تفسر حرص الحكام العسكريين على إحكام القبضة على المرحلة الانتقالية، فمن جهة يرى المسحوبون على الحكام العسكريين أن إتاحة مساحة واسعة لمشاركة السياسيين في تسيير المرحلة الانتقالية قد يفسدها، في حين يرى منتقدو هذا أن الطرح أن العسكر سعوا إلى عسكرة الجهاز التنفيذي والتشريعي بغية الاستفادة من الأخطاء التي وقع فيها انقلابيو 2012 بقيادة النقيب صانوغو، حيث كان حضورهم هامشيا في تسيير السلطة، وهو ما أفقدهم التأثير بعد انتهاء المرحلة الانتقالية وعرضهم للملاحقة والسجن. ويتضح من خلال الحضور البارز للجيش في مختلف مرافق السلطة (الوزارات والإدارات المركزية بالوزارات المدنية، السفارات، والولاة.. الخ) أن ثمة نية للإبقاء على دور فاعل للجيش في مختلف مفاصل السلطة حتى بعد تسليم السلطة للمدنيين.
- تنامي صراع المحاور الإقليمية والدولية بالبلد: مع تدويل الأزمة الأمنية بمالي في السنوات الأخيرة، تزايدت وتيرة الاهتمام الإقليمي والدولي في شؤونها الداخلية، فلم يعد هناك فاعل خارجي وحيد بإمكانه ضبط بوصلة البلد في اتجاه واحد وذلك في ظل توزع الفاعلين الداخليين على المحاور الإقليمية والدولية، ولعل الانقلاب الأخير الذي حصل دون ترتيب مع فرنسا، التي كانت الفاعل المؤثر الأبرز في البلد أكد وجود إطراف دولية رئيسية ذات تأثير قوي الشأن المالي. وهنا يجري الحديث عن تنافس قوي بين روسيا وفرنسا على مالي. فقد جرى الحديث عن دور كبير لروسيا في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس إبراهيم أبو بكر كيتا في 18 أغسطس الماضي. ولم يستبعد مراقبون ساعتها أن يكون لروسيا - التي وقعت اتفاقا للتعاون العسكري مع مالي في السنوات الأخيرة وأمدتها بمعدات عسكرية متنوعة - دور في عملية الإطاحة بالرئيس كيتا.
ومن الشكوك التي أثيرت بشأن الدور الروسي المحتمل في الانقلاب عودة اثنين من القادة الرئيسيين للانقلاب من روسيا قبل أيام قليلة من تنفيذ الانقلاب بعد تلقيهما دورة تدريبية عسكرية هناك. فالعقيد صيدو كمرا الذي يشرف الآن على عملية توقيف الرئيس باه انضو، ورئيس الحكومة تردد اسمه في البداية كزعيم للانقلاب أغسطس الماضي، هو وزميله العقيد مالك جاو اللذان ينظر إليهما كمهندسي الانقلاب عادا من روسيا قبيل فترة وجيزة.