عندما إلتحقت لأول مرة بسلك التعليم (قبل نحو عقد ونصف من الآن) كنت أتصور أنني وضعت رجلي على بداية الجسر الموصل إلى تحقيق أحلامي الكثيرة و طموحاتي الكبيرة بخدمة البلد و المشاركة في بنائه .
حينها كانت في رأسي أفكار عديدة تتوق للتجسيد على أرضية واقع التعليم المتردية ، و كانت الثقة عالية في القدرة على المساهمة في إعادة الحياة و الخصب إلى ذلك الحقل الذي اكتسحته الآفات و الطفيليات لتتركه ذابلا مجدبا إلا من سنابل قليلة لاتزال تنتصب شامخة الرؤوس في أطرافه ....
لم أكن أرى حينها _ولا أزال_ أن مشكلة التعليم تقتصر على سوء الظروف المادية لممارسيه فقط ، بل إن جزءًا كبيرا منها يتعلق باللامبالاة في مسابقات اختيار المدرسين ، و في استراتيجية التعاقد مع المعلمين و الأساتذة التي ميعت المهنة وجعلتها ملاذا لكل من هب و دب .
لذا كان مرتكز نظريتي التربية للاصلاح يقوم :
*أولا - على ضرورة إيجاد آلية لاختيار مدرسين ذوي كفاءة في اختصاصاتهم، ومنحهم رواتب تضمن لهم _على الأقل_ الحد الأدنى للعيش الكريم.
*وثانيا - تكوين أولئك المدرسين على سُبل خلق علاقة تآلف و محبة بينهم و بين التلاميذ. مما تتولد عنه رغبة في العلم و تقدير لحامليه و ميل إلى الاستزادة منه ، قبل التفكير في التوجيه الذي لا يأتي _أو لا ينبغي أن يأتي_ تعسفا بل نتاج قدرات فطرية في الفهم و الميول و الهوايات تمنح كل شعبة تلقائيا نصيبها ممن يعول عليهم كمشاريع مبدعين في شعبهم.
حين كنت أفكر بهذا الشكل كنت أدرك أن سلطة البلد ليست لديها استراتيجية واضحة للإصلاح، لأنها تتوهم أن التعليم يمكن إصلاحه ببساطة و في أشهر معدودة من خلال استبدال وزير بآخر فقط، بل لعلها تتصور أن العملية التربوية لا تتطلب _زيادة على ذلك_ سوى توفير ملاذات تدريس و مدرسين بغض النظر عن الكيفية التي يتم بها ذلك. لكنني رغم ذلك كنت أتصور أن الوزارة المعنية تعرف _على الأقل_ كيف تسير طاقمها (تحويلا أو ترقية أو مكافئة أو عقابا) كما تفعل أي مؤسسة أو هيئة أخرى ....
ومنذ سنتي الأولى أدركت _رغم وعيي بما يلزمني به العقد الوظيفي وما لا يلزمني به_ أن علي أن لا أكون حرفيا جدا ، وكيف أكون كذلك و أنا أرى حجم الضياع الذي يتردى فيه ابناء هذا الوطن في ظل النقص الحاد في الطواقم التربوية ، بل المهم أن ألبي النداء طوعا أو كرها فلا أقصر في أي خدمة أستطيع تقديمها.... فوجدتني في غمرة ذلك الحماس أدرس (التاريخ و الجغرافيا طوراً و اللغة العربية طوراً و اللغة الإنجليزية طوراً و التربية الإسلامية و التربية المدنية و الفلسفة... رغم أني و الحق لله لا أجيد أي واحدة من هذه المواد بل إن ما أفعله هو مجرد بذل الجهد لتغطية العجز)... لم يكن يهمني طوال هذا المشوار أن تكون لدي علاقة خاصة مع المديرين الذين عملت معهم رغم ما أكنه لبعضهم من إعجاب، بل أن تكون لدي أولاً علاقة خاصة مع التلاميذ الذين أعمل لأجلهم ، وحسبي أن لدي من الطرفين بينات وشهود عدول (لا شاهدان) على تقدير هؤلاء و احترام اؤلئك. و لدي
بفضل الله في كل مكان عمل مررت به ذكر طيب ...
والنَّاسُ مَن يَلقَ خيراً قائلونَ له
ما يَشتَهي ولأُمِّ المخطِىءِ الهَبَلُ.
الأكيد أن كل هذا لا يعني الإدارات الجهوية للتعليم و لا يعني وزارة التهذيب ، إذ ليس بشفيع لصاحبه في انتقال و لا ترقية و لا تمييز و لا تحفيز و لاحتى في عبارة امتنان. و الشواهد على ذلك كثيرة جدا.
إذ لا علاقة لتلك الإجراءات بمعايير النجاح و المواظبة و التقويم الإداري و التفتيش و الأقدمية و التعاون و الرغبة في الخدمة ...
اذكر أن الظروف ألجئتني ذات يوم بعد طول بُعدٍ وصبر إلى طرق باب مدير جهوي كنت قد أودعت لديه منذ مطلع العام طلبا للتحويل إلى مؤسسة غير التي أعمل فيها ليدخل عليه معي لنفس الغاية استاذ عقدوي أعرفه يدرس معي نفس الاختصاص، فأقنعنا باستحالة تلبية ذلك الطلب، و بعد أيام اتصل عليّ زميلي العقدوي يخبرني بتحويله إلى المؤسسة التي كنت أريد (فأسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم) وعدت إلى الجهوي مذكرا بطلبي القديم و وعدني كما وعدني من قبل لتتكرر نفس الحادثة مع زميل آخر حديث التخرج، ثم يشاء الله أن أذكر رغبتي تلك أمام فتاة أعرفها فتعدني بالسعي فيها وما أسرع مايثمر سعيها بخلافي سعيي
و أفضل الناس ما بين الورى (إمرأة) ___ تقضى على يدها للناس حاجات ...
ثم عادت إدارتنا الجهوية بعد خمس سنوات من إقامتي في ذلك المكان لتتذكرني (ليس بخير طبعا) و تنقلني في منتصف العام الدراسي، دون مبرر قانوني من مؤسسة كنت أول من حول إليها بعد تدشينها إلى مؤسسة نائية ليست بحاجة إليّ، لأمضي أزيد من شهرين في سلسلة من الاتصالات والرحلات المكوكية بين الإدارة و مقر العمل الجديد، و تذهب في غمرة ذلك علاوات الفصل الدراسي الثاني أدراج الرياح... قبل أن يتم في آخر أشهر تلك السنة نقلي إلى مؤسسة أخرى .....
طبعا ليست هذه أسوء تجارب قلة الاحترام وقلة الإنصاف التي يتم التعامل بها مع طواقم التعليم ، بل مجرد أمثلة لكيفية تسير الأمور غالبا في قطاع التعليم ، الذي لا يعاني سوء الظروف المادية فقط. و رغم ذلك لا أزال أحيانا أعلل النفس بقيمة المهنة و شرفها و لا أزال أحيانا أجلس لأستمع إلى كلام مسؤول يتحدث عن نية إصلاح التعليم و هو في حد ذاته أصدق تجسيد لفساده .