من المحفزات الأولية للتغيير اتضاح الرؤية وجلاء الأهداف واتساق الأدوات مع البنى الواقعية .
والمتأمل في الساحة الموريتانية يدرك بجلاء تلك الضبابية التي تنتاب رواد العمل الفكري والسياسي وحالة الاغتراب النفسي التي يعشها المثقف بشكل ما .
كما يدرك بالضرورة وبشكل طردي الازدواجية العميقة في البنى الثقافية والاجتماعية من حيث نظرتها للواقع وتبنيها للمواقف إزاءه ، وتناقضاتها الفاحشة بين المنطوق والمطروق من القيم .
ومن المبرر أن تكون لكل مجتمع رافعة نحو التطور والتحضر أو التعايش في الحد الأدنى مع المحيط المتغير بطبيعته .
وتتشكل هذه الرافعة عادة في نخبة محلية مستنيرة تختلف و تتباين مواقفها في كيفية إنفاذ الرؤية إلى الواقع لا على الرؤية من أساسها ، ويتعذر في العادة الاختلاف على الأهداف أو الرؤية العامة لأي شعب .
وفي حالة طبيعية كتلك تتشكل رؤية المجتمعات بناء على خطاب النخب الواعية فتتحد الرؤية الجماهيرية بدورها وتلتف حول الأهداف العامة وتتباين وتصطف بناء على الاختلافات المتعلقة بآليات وطرائق تنفيذ هذه الرؤية المتفق عليها .
ودعونا نفترض رؤية عامة من المفترض أن توحد الموريتانيين وتعمق وعيهم بالحقوق التي لا خلاف عليها ، ولنقل أن مكونات وأسس هذه الرؤية هي :
الحريةالديمقراطيةالعدالة الاجتماعية
تلك العناوين بكل ما تحويه من تفاصيل لا تشكل بالطبع موضع خلاف لا بين الأحزاب ولا النخب ولا التيارات أو المنظمات .
كان من السهل إذا - وبناء على تصور حالم كهذا – أن تكون الوصفة المختلف عليها هي البرامج الأنجع والأسرع والأكفأ لتنفيذ تلك العناوين وإخضاعها للعمل الميداني وصهرها بالواقع .
لكن صورة كتلك قد تطرأ عليها عوامل تجعل منها شكلا من أشكال الوعي النرجسي لدى الأحزاب والنخب وغيرها من مؤسسات المجتمع بل والمجتمع نفسه .
فما هي هذه العوامل و كيف تتمكن من اغتيال الوعي الفطري بضرورات البقاء في مهد المجتمعات لتتحول إلى أمم تتصارع في الطور الفعلي وتتفق في الطور الخطابي الشكلي ؟
الآيديولوجيا :
وهي من أهمالعوامل المزلزلةللرؤية الجمعية في مجتمعات العالم الثالث ، فالأديولوجيا لا تشكل الفرد بصفته شريكا في الوعي بل بصفته أداة للتنفيذ والحماية والحراسة .
مثال : حين تسأل أي بعثي اليوم عن مدى إيمانه بالديمقراطية والتداول السلمي على السلطة والشفافية ... الخ
سيفيدك فورا أن إيمانه بكل تلك المبادئ لا يتزعزع ( سواء كان هذا على المستوى الفردي أو المؤسساتي ) ، لكنه سرعان ما يتحلل من وعيه الفردي هذا حين تسأله عن صدام حسين ( القائد الرمز والشهم المناضلفي نظره )
في الوقت الذي لا يمكن لهذه الرمزية ( صدام حسين رحمه الله ) أن تصمد أمام المبادئ التي أفادك مسبقا بإيمانه بها ( الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة والشفافية ... الخ ) .
وقس على البعثي غيره من المتخندقين خلف الأيديولوجيا بمختلف أوجهها .
هناك تناقض فاضح بين الخيارات الفكرية المثالية وبين المخزون الثقافي التوثيني الصلب .
الخطاب السياسي ذو الطابع الديني :
يظل الخطاب السياسي ذو الطابع الديني مقبولا حتى لو استخدم الدين نفسه أو حتى ناقضه .
مثال : يبدو في ظاهر الأمر أن خطاب التيارات الجهادية ( القاعدة ، داعش .. الخ ) يبدو مرفوضا في المجتمعات المسلمة و العربية منها بالذات ، لكن سرعان ما يتجلى نقيض هذا الرفض حين نحلل المؤشرات العامة للتعاطي مع هذه التيارات .
فحين أقدمت داعش على حرق الأدرني معاذ الكساسبة بتلك الطريقة البشعة والمهينة لكرامه الإنسان ومشاعره ، كان خطاب الرفض خجولا وضعيفا .
وليس الإشكال هنا إشكالا يتعلق بالتعاطي الإعلامي ، فالإعلام له توجهاته التي قد تسوسها التيارات وتخنقها السياسات الدولية والمحلية أو المصالح أو غيرها ، لكن الخطير في الأمر أن التعاطي الانساني ( موريتانيا نموذجا ) كان ضعيفا ، ففي بلد المليون شاعر لم تبكي قصيدة واحدة دمع أم الكساسبة ولا أبناءه ولا حتى الإنسان المتألم داخلنا ونحن نشاهد شابا يحرق بالنار عمدا أما أعين أطفاله ووالديه وزوجته .
هنا يبدو جليا أننا داخليا لسنا كما نحن في الظاهر أمة ترفض البشاعة والقتل والتدمير .
وحين دخلت بلدنا حيز التهديد من القاعدة التي أصبحت منها مرمى حجر في أحداث ماليكان من الطبيعي من أغبى ساستنا أن يدرك أن الحرب قادمة والاستعداد لها بل وولوجها واجب أخلاقي ووطني وديني لا ينبغي التردد فيه . لكننا سمعنا أصوتا ترفض الحرب وتؤازر الصمت متعاطفة مع الخصم المدجج بأبشع وأنذل أسلحة التاريخ .
وتأتي تلك الخطابات والمواقف المستبطنة لمؤازرة المد الديني في أشكال مختلفة منها التهجم علىحلفاء الحرب ( فرنسا في حرب مالي ، والتحالف الدولي في حالة العراق ) دون أن يضع هذا الخطاب بديلا للتحالف مع القوى العظمى في محاربة تيارات لا قبل للجيوش المحلية بمواجهتها .( بغض النظر عن الموقف السياسي التاريخي من تلك الدول )
ومن أغرب مظاهر الدعم العامة لهذه الحركات الإحجام الواضح عن نقدها ومحاربة من ينتقدها بأبشع الوسائل وأكثرها دناءة ( التكفير ، الزندقة ، العمالة ، التهديد ... الخ ) .
النزاعات ذات الطابع الإثني :
وهي من أكثر الصراعات استنزافا للعاطفة وتغييبا للعقل ، لهذا يسهل تكوينها واستغلالها من جهة ويصعب تفكيكها ونزع فتيلها النفسي العميق من جهة أخرى .
مثال : قضية لحراطين في موريتانيا
إسأل أي "بيظاني" اليوم عن مدى إيمانه بحقوق " لحراطين " في المواطنة والحرية والمساواة القانونية والاجتماعية والعيش الكريم في دولة ومجتمع يكفل لهم كرامتهم وحقوقهم ؟
سيجيبك على الفور أنه يؤمن عميقا بتلك الحقوق بل يدرك مخاطر العجز عن كفالتها من قبل الدولة والمجتمع .
لكن ذات المجيب المؤمن بتلك الحقوق هو من يرفض منحهم كرامتهم ولا يؤمن بسواسيته معهم ، بل ويذهب على أبعد من ذلك باعتبارهم أقل شأنا من أن ينالوا حقا كذلك ( أنظر التعليقات على أي تدوينة في فيس بوك مثلاتدافع عن لحراطينوشاهد حجم المشكلة ) .
يبقى أن أعرج على شكل المثقف ومضمونه بشكل عام ، فالمثقف الذي يكتب عن الفساد والمحسوبية ويعتبرها عائقا أما حقوق التوظيف ( العمل ) والرعاية الاجتماعية ، التعبير ... الخ
هو ذاته المثقف الذي يكابد و يستنزف الوجاهة الاجتماعية والعلاقات الشخصية من أجل اجتياز الشفافية ليفوز بالوظيفة التي يدرك عدم أهليته أو أحقيته بها ، وهو ذاته الذي يكتب لصالح طرف يدفع له ثمن رأيه ... الخ
المثقف في هذه المجتمعات إذا ليس إلا عرضا من أعراض المجتمع الذي يكل عمق ومحضن المرض .
وحين يكون السلوك شكلا كاذبا من أشكال النفاق العام تتضرر الأخلاق بشكل مقبول وتفقد القيم الكبرى والعظمى قدسيتها لصالح البقاء بينما يُعلى من شأن أخرى تضليلا للضمير وتبريرا لمرارة الواقع .
إن أمة تقبل أن ترعى النقيضين وأن تتباهى بالفضيلة في ظاهرها بينما تنخرها الرذيلة بعلم منها ورضى ، هي أمه لا تستطيع أن تمضى قدما نحو رؤية أخلاقية خلاقة تؤسس لدولة قوية ترعى وتكفل حقوق الشعب .
وأي حزب أو تيار أو مثقف أو عالم لا يمتلك الشجاعة للمصالحة بين الواقع والمثل لا يمتلك الحق في تمثيلنا ولا ريادة مؤسساتنا أو الحديث عن أحلامنا .
ينبغي أن نتوحد كشعب حول الرؤية لتكون المعيار الموحد والأوحد لصلاح النخب أو الأفكار أو السياسات ، وأن نتجاوز التناقضات الذاتية لنقول " لا" بشجاعة وتجرد وقوة حيث تكون الرؤية في خطر وأن نقول " نعم " حيث الضمير ينزع لقولها ، ضاربين عرض الحائط بأوثان الفكر والسياسة والمذاهب والايديولوجيات .
محمد افو