حقائق طاردة للحرية

الحرية» كلمة غير واضحة المعالم، على الرغم مما أحيطت به على مر التاريخ والأجيال، من مظاهر تكريمية بلغت حدود الاحتفاء بها والتبجيل لها والتضحية بالحياة من أجلها.تكاد كلمة «الحرية» لا تقول شيئا سوى أنها بعد رمزي لطموحات إنسانية تحولت إلى موضوع استثمار ثقافي، سياسي واجتماعي. هي الآن أشبه بالصيت الجيد، الذي يحتفظ ببريقه حتى في الظلام. إنها شيء يحضر في خطابات النوايا المعلنة، ويختفي في الإجراء والممارسة، لأنه لا يقوى على حماية نفسه ممن يريدون كبته أو محاصرته. في ما مضى، قال «كانت»: لا شيء مطلوبا غير الحرية! وظل يرددها حتى ظن الناس به الظنون: هل أدرك الرجل أن الحرية أمر عصي على التحقق، وأنها خصصت للعرض في الواجهات السياسية وليس للاستهلاك البشري؟علوم الثقافة تؤكد الآن على أن لا وجود للحرية! وتتحدى كل الباحثين عنها ومستثمريها، بسؤال مناكف هو: ما الحرية؟ ثم تستدير – هذه العلوم – بميكانيكية مفزعة، نحو المبدع والمفكر، باعتبارهما منبع البحث الإنساني في سؤال الحرية، ومبعث نفيها في الوقت ذاته، وترتكز في استدارتها تلك إلى «عناصر تشكيل الفرد» ضمن منظومة الثقافة الشاملة، التي لا تمثلها نتاجات المبدعين والمفكرين والباحثين وحسب، إنما مجمل النشاط الإنساني والاجتماعي من أنماط حياة وفنون وحرف وآداب واقتصاد وعمران.وسواء تأثر الفرد بثقافة مجتمعه وعصره أو تمثلها، فإن حريته هي الضحية، إذ أن اختياره لا يمكن ن يكون حرا أو ذاتياً صرفا، إنما هو اختيار مساير ومطاوع للاعتبارات التي تمليها عليه تأثيرات البيئة الثقافية والاجتماعية المحيطة به. علوم الثقافة الجديدة، تبحث الآن عن دليل واحد، يبرهن ويثبت قدرة الإنسان على الاختيار الحر المطلق، من دون الارتداد إلى مرجعياته التربوية، الثقافية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعية.صحيح أن تعدد الخيارات يوحي بحرية الانتقاء، لكن تلك الخيارات تتخذ ملامحها وتتحدد بناء على المناخات السائدة، ما يعني أن القفز عنها أو تجاهلها أمر غير ممكن.إن حديث الحرية يتطلب فحصا للشروط التي يمكن من خلالها الوصول إلى مفهوم عملي نسبي، يزيدنا اقترابا منها، وهي شروط لا تنطبق على الأفراد وحسب، إنما على الجماعات والسلطات التي لا تملك، في الحقيقة، حرية الاختيار واتخاذ القرار، لأنها أيضا، تظل رهينة البيئات السياسية المحيطة، وقوانين النظام العالمي الذي يحدد مساراتها، وينزع في الوقت ذاته عنها – كما الأفراد والجماعات – سمة الحرية.أما العناوين العريضة التي تكثر السلطات من استخدامها، ويرددها حفظة الشعارات وبعض الأكاديميين في دروسهم وكتبهم، مثل «الحرية المسؤولة» و»الحرية المقننة» و»تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين»، هذه العناوين على ما تحمل من وجاهة خادعة، تتحول إلى قيود حين يساء تطبيقها واستخدامها، أو حين يتم تأويلها وتكييفها وفقا للهوامش الضيقة التي «يتنازل» عنها الحاكم للمحكوم.أمر آخر يزيد من تخثر الحرية ويعرقل جريانها في شرايين الحياة: إنها الرياح الماكرة للألفية الجديدة التي تعد بجدارة، معادية للحرية، متآمرة عليها، مستخدمة لعناوينها من أجل التحكم بمستقبل الإنسان الثقافي والروحي والسياسي، وفي مصائر الشعوب.من يشك في هذا فليتابع ما يحدث في المجتمعات الشرق أوسطية، أو فلينظر إلى عمليات تلوين الثقافات، والقتل من أجل «حرية المعتقد» وما تقوم به وسائل الاتصال من عمليات غسل للدماغ الفردي والجمعي، بهدف شل قدرة الإنسان على التحكم بقراراته وخياراته.المشكلة أن الحرية ذاتها تحتاج إلى إعادة تعريف قد تودي بما تعارفت عليه البشرية منذ ابتداء شوطها مع الحياة.

جمال ناجي

سبت, 28/02/2015 - 22:46

          ​