كان يجوب أروقة و دهاليز وزارة أضحي يعرف كل زواياها و كل الذين يشغلون وظيفة فيها، يعرف أعراقهم، أعمارهم، توجهاتهم، طباعهم، كل خفايا أدراج مكاتبهم و خبايا أسرارهم... يشرب شايهم على اختلاف نوعياته و مذاقه و يأكل ما يجود به عليهم باعة اللحم المشوي أو المعد بالمرق عند حافة المبنى حيث موقف السيارات و تقضى الحاجات في الفضاء الرحب... عبد الله،
هكذا يدعى و هو في ذلك لا يختلف عن أي من عمال و رواد الوزارة إذ جميعهم عباد الله... لا تفارقه محفظته التي أصبحت جزء من إبطه حتى سماه بعض أصحابه مداعبة "تأبط محفظة"... و لكن مهلا فإن محفظة عبد الله ليست ككل المحفظات... كلا... فهي ذاكرة حية لتاريخ صناعة الجلود الإيطالية الأصلية من ظهور و بطون التماسيح الإفريقية المستوردة، و أعجوبة زمن الحاضر حيث يتناغم بداخلها مكتب توثيق بحاله و ومقر حزب مشرع بنظمه و مواثيقه و منظمة غير حكومية متعددة الاهتمامات تنشط في رحاب المجتمع المدني، و جريدة ناطقة بلسان حال كل فوضوية الإعلام تصدر و تختفي متى تشاء و أيضا مؤسسة مقاولات و تجارة و خدمات تعقد من حين لآخر بعض الصفقات المدرة للدخل الوفير بأقل جهد و في حل من دفع ضرائب الدولة المستحقة في ظل كل حكامة كتب لها أن تكون رشيدة...في الوزارة يتقصى عبد الله أخبار مخصصات الأحزاب و يستعلم عما جد في شأن المنظمات... يعقد مع الربحيين و الانتهازيين و الطفيليين المنتشرين و المعشعشين في مفاصلها المحاسبية و المالية التسييرية و الإدارية المتصلة و بدعم سري من بعض أصحاب التواقيع "السيزامية"، صفقات و تعاهدات بتقسيم أرباح المشتريات المغلظة و الخدمات المفتعلة و المختزلة أو الوهمية المفبركة... يحصل على بعض قصاصات التزويد بوقود السيارات المدفوعة القيمة...
يستخدم مجانا الهواتف العمومية المفتوحة على كل الخطوط... يطرح بعض هموم ذويه من أقرباء و معارف و شركاء عسى تجد من باب الوساطة حلولا فتتسع دائرة قيمته الاعتبارية و ترتفع أسهمه في سوق نخاسة السياسية لخوض أهوال التي لا يهدأ في رأسه قرع طبولها ... باختصار... كل يوم هو في شأن.في ذلك اليوم، الذي سيبقى محفورا بحلوه و مره في ذاكرته، استطاع عبد الله أن يعبر الحواجز، التي تصد صدا أفواج و أفراد المترددين على أعالي مكاتب الوزارة ليجد بسحر ساحر نفسه عند عتبة باب علقت فوقه يافطة كتب عليها بأحرف مذهبة تتوسط خلفية خضراء "المسؤول السامي" و قد أمسك بقبضة ذلك الباب المهيب و دفعه إلى الأمام ليطل برهبة على الطلعة البهية لمدبر شؤون القطاع و مقسم كل أرزاقه... كادت تسقطه، مغشيا عليه، نشوته التي بلغت ذروتها في تلك اللحظة التي لم يكن على موعد معها...لولا أن تداركته عناية الله و هدته إلى تقدير فرصة، قال في نفسه، إنها قد لا تتكرر...
مد يده المرتجفة إلى صاحب المكتب العريض الذي عكست صفحته الملساء بأدق من أكثر مرآة نقاوة كل تفاصيل ازدواجية المشهد... اضطراب الزائر و هدوء المزور... قد يكون التقدير الصحيح لعرض ذاك المكتب الذي يفصل بين الرجلين هو ما منع يديهما من الالتقاء و التشابك... و قد يكون السبب تلك النزعة الاستعلائية التي يمليه الإحساس بغياب الندية و التي أبان بها المسؤول... و مهما يكن فقد قبل عبد الله الأمر الحاصل بروح رياضية عالية و أصغى إلى صاحب الشأن و الكعب العالي حيث قال دون أية مقدمات:- دعني أبلغك أننا بحثنا:
عن مقر حزبك فلم نعثر له على مكان... و عن مكاتب منظمتك فلم نهتد إلىيها...و عن دائرة تحرير صحيفتك فلم نحط بها علما... و عن مبنى مؤسستك فلم نفلح في الوصول إليه- لقد أعيانا البحث... و اعلم أننا - و ذا بيت القصيد - أننا في دورة تفتيش و تحقيق مالية؟
فتح عبد الله محفظته... نظر بداخلها، فتش في أحشائها... أخرج منها يده بيضاء من غير سوء... أغلقها.. تنهد طويلا... تنفس الصعداء... حدق بجرأة في عيني المسؤول السامي الذي بدا له أقل شأنا من ذي قبل فرد صارما جازما و متحديا:
- سيدي المسؤول السامي في هذه الوزارة، لقد فتشت في محفظتي كما رأيتني أفعل فلم أجد مكانا يتسع فيها للمفتشين و المحققين.. و أنا متأكد أن قطاعكم لن تضيق بهم ذرعا، فهو مرتع خصب لضالتهم المنشودة... شاي و مجاملات و إسداء خدمات و تفاهم و تجاوز و وبونية... و قبلية و عشائرية و ... و موعد و لقاء.أطرق قليلا ثم قان:
- استودعتك الله حتى نتعارف بشكل أكثر في دائرة السياسة أو مجال الإعلام أو الأعمال أو المجتمع المدني... و أرجو أن تسمح لي بالانصراف في هذه اللحظة فأنا موزع بين الحزب و المنظمة و الجريدة و المؤسسة.
بقلم : الولي ولد سيدي هيبه