بدء من مسيرة الافغاني ومحمد عبده ظل حلم التوحد الإسلامي ماثلا في ثنايا أفكار مصدري جريدة العروة الوثقى بل إن هذا الحلم كان الهدف الأول الذي رسمه الأفغاني في سلة اهتماماته حيث تجلى ذالك في العلاقات الموسوعية التي طبعت حياته مما جلب له أحيانا سهام التشكيك في الولاء والغاية وقد نجد في الإنتاج الفكري الوحيد للرجل وهو كتابه <الرد على الدهريين > ما يمكن أن نصفه بتحفظ معالم رؤية جمعوية وإن كان الصراع الوجودي الذي أفرز العلمانية لاحقا هو الأكثر بروزا في سطور هذا الكتاب، وعندما قرر محمد عبده أن ينشق عن إمامه وعاد يلعن ما سماه السياسة ومشتقات فعلها لم يكن ذالك تخليا كليا عن منهج الوحدة إنما فشل الأسلوب الفردي الذي انتهجه هو ما أورثه يأسا وميلا إلى المسار التربية والتعليم جاعلا منه مسلكا حصريا للإصلاح، واستمر المسلك ذاته مع الإمام رشيد رضا غير أن صدور كتاب على عبد الرزاق < الإسلام وأصول الحكم > أعاد فكر الخلافة الإسلامية إلى الواجهة مجددا ومع أن الكتاب لم يحمل من المستوى العلمي ما يلائم الموضوع الذي تناوله إلا أن طعنه في أمر كهذا حرك في نفس رشيد رضا وغيره من العلماء هاجس الخوف على تزعزع مفهوم الخلافة كركيزة إسلامية.
لم تكد تتضح ملامح الانقلاب الأتاتوركي على الخلافة العثمانية كحدث مرير حتى أحس كثير من المسلمين بالضياع والتمزق وصار استرجاع الخلافة السليبة هما يخالج أفئدة ذوي الفكر وأصحاب الغيرة على الأمة فكان من أثر ذالك أن تأسست جماعة الإخوان المسلمين كحركة إسلامية سياسية بقيادة حسن البنا ليأخذ بذالك الفكر السياسي الإسلامي منعطفا جديدا يحتفظ بالشمولية الفكرية ويؤسس للعمل القطري الذي فرضته اتفاقية سايكسبيكو واقعا حتميا.
استمر انتشار العمل الإسلامي واتسعت رقعته فشكل المودودي الجماعة الإسلامية في باكستان والتي جعلها تجسيدا لمبدإ الحاكمية الذي نادى به في كتاب "الخلافة والملك" وهي الفكرة التي تبناها فيما بعد سيد قطب بل إنه كان أكثر حدة حينما أطلق وصف الجاهلية على المجتمع في كتابه "معالم على الطريق" ، مسار كالذي انتهجه الشهيد قطب ساهم مع عوامل أخرى في إفراز فصيل جديد في العمل الإسلامي يتخذ من العنف المسلح وسيلة لبناء الخلافة الإسلامية المنشودة .
ليس من الخطإ أن نحكم بأن ظهور هذا الفصيل الجديد مثل عائق تحد أمام الفصيل الأول فرغم ما حاول نصر أبو زيد وأمثاله إثباته من أن الخلاف بين الطرفين ينحصر في الأولويات المتاحة لا في الوسائل المشروعة فإن واقع العلاقة بين الإثنين اتخذ شكل القطيعة منذ البداية مما حدا بكثير من حملة المشروع الجهادي أن يصموا الآخرين بالردة والتنكر للإسلام.
يخطئ الكثيرون ممن يحاولون الحكم على مفهوم الخلافة من باب التحيز الفكري أو من خلال الطعن في حديث حذيفة ، ليس الأمر هنا توسلا للخلاص أو تحريا للزمن الجميل فحتى داخل المنظومة الشيعية كانت ثورة الخميني قفزا على مبدإ الانتظار وتجاوزا له، إننا حين نتحدث عن الخلافة الإسلامية لا نعلنها حربا تنتج الحز والحرق لأن الجهاد في فقه الشريعة التي ندين إلى الله بها هو وسيلة عدل لا أداة قتل ولعلي أعرج في فرصة أخرى لتفسير أعمق رباني المورد لقوله تعالى< وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ........ > .
لم تكن الخلافة يوما في عرف دعاة العمل الإسلامي كتلك التي يرفعها الداعشيون اليوم - آخر نكبات الأمة الحديثة - إنما كانت منهجا يبتغي استعادة الأمة وحدتها كمجتمع متماسك وإرادتها كأفراد كرماء ، ثم إن الخلط بين الخلافة وأسلمة المجتمع كثيرا ما يوضع في غير محله ، صحيح أن مقصد انتشار الدين هي رسالة يحملها كل فرد داخله لكن ثمة ضابطان أساسيان لهذه الرسالة :
_ <لا إكراه في الدين> فالاختيار أولا وأخيرا كيف لا والله جل في علاه يعاتب نبيه فيقول " <أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنون>
_ الخطاب الألين والمنطق الهين <وجادلهم بالتي هي أحسن > ولفعل التفضيل هنا دلالة أجمل.
ربما يقودنا هذا الحديث بالأحرى إلى بنية الدولة في التصور الإسلامي ولأن المقام ضيق هنا أكتفي بالمرور على ما ورد في وثيقة المدينة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود " وأمة بني عوف أمة مع المؤمنين " ولأن محل الكلمة هنا يمنع دلالتها الدينية الأشمل فعندئذ تنتفي دعوى الثيوقراطية المفتراة على الإسلام .
إن التنافر بين مصطلحي الخلافة والملك في حديث حذيفة ليس بالأمر العرضي إنما يؤكد مبعث القلق الذي تتوخاه الشريعة من هذا اللفظ الحامل في طياته شحنة فردية عالية تغيب معها أي سيادة لأمة، وأقف هنا عند موضوع السيادة داخل نطاق الخلافة الإسلامية ، لعل ما يرادف السيادة كمصطلح فرنسي يمثل جوهر الدمقراطية هو مسألة الحاكمية، فسلطة الأمة في عقد الخلافة هي سلطة تابعة للحاكم الإلهي الأعلى متابعة للحاكم البشري الأدني وما بين هذين يسير منحني السيادة في النظرة الإسلامية ، وليس صحيحا القول بانطباق السيادة مع الدمقراطية فقد أقام نابليون بعد الثورة نظاما دكتاتوريا ومع ذالك كان يتغنى دوما بسيادة الأمة .
وفي مقابل مفهوم السيادة ترد الطاعة كعنصر متجذر في بناء الخلافة الإسلامية وقد ظل هذا العنصر كشعرة معاوية بين الحركات الإسلامية وأنظمة الحكم في بلدانها وقد ازداد النقاش مؤخرا في هذه القضية بعد قيام الربيع العربي، والحق أن هناك ملابسات كثيرة شابت هذا العنصر الرابط بين طرفي العقد في الخلافة خصوصا بعد منتصف القرن الثاني الهجري فتحولت ثقافة تغيير المنكر السياسي إلى الطاعة الكاملة حيث اتخذت فيما بعد لبوسا دينيا تعضده بعض روايات السنة النبوية التي طعن البعض في صحتها وأولها البعض الأخر وذالك كزيادتي حديث عبادة "إلا أن ترو كفرا بواحا" وحديث حذيفة " وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، وقد ظل النزوع مستمرا داخل الحركات الإسلامية للانعتاق من فقه الطاعة السياسية هذا بدء من سيد قطب وإلى اليوم غير أن الأمر لا يزال بحاجة إلى بحث أعمق يؤسس لمستند شرعي رصين انطلاقا من تحديد دلالة آيتي النساء ومضمون ما يمكن أن يترتب على قول ابن القيم <إن كل أحاديث الطاعة كانت من قبيل الفتوى>.