آدرار ايفو - يقول مثل موريتاني لخبار لمحالية « اطير » [الأنباء الحزينة تطير]، أي أنها تنتشر كالنار في الهشيم.وفعلا فقد طار هذا الخبر، حيث علمنا خلال أقل من نصف ساعة في جميع أركان البلاد، يوم الأحد 8 مارس 2015 عند الساعة الثامنة والنصف مساء أن لمرابط سيدي محمود ولد الشيخ أحمد ولد اعلي طالب قد انتقل إلى جوار ربه بعد وعكة صحية مفاجئة ألمت به في مركز الاستطباب الوطني بنواكشوط.
وبهذا الخبر الجلل والمفاجئ، فقدت موريتانيا رجل دولة يتحلى بخصال إنسانية نادرة. لا تفارق الابتسامة محياه أبدا، وكان موهوبا يمتاز بروح فطرية للتنظيم. كان لطيفا، أنيقا، حيويا، ودودا منذ نعومة أظافره، مما يبشر بمصيره كموظف كبير في الدولة. وسرعان ما أكسبته هذه الصفات لقب السفير من قبل أصدقائه المقربين ورفاقه في الدراسة. لقد شملت دفعته بالمدرسة الوطنية للإدارة عشرة من الإداريين المدنيين الممتازين إلى جانب الفقيد لمرابط سيدي محمود: محمد ولد معاوية، سيدي محمد ولد محمد لمين (اختفى على متن طائرة نواذيبو عام 1992)، المرحوم أحمدو ولد محمد سلطان، المرحوم عبد الرحمن ولد الداه، أبو موسى ديالو، عبد الله السالم ولد حي، محمد الحنشي ولد محمد صالح، محمد ولد محمد سالم ومحمد عبد الله ولد زيدان. إن هذا الأخير، الذي دأب على إطلاق أسماء مزاح على أصدقائه وأقاربه هو الذي اكتشف له لقب السفير الذي حمله بشكل جيد.
حياة مهنية رائعة
بعد التخرج من المدرسة الوطنية للإدارة في عام 1981، تم تعيين لمرابط سيدي محمود مديرا للشؤون السياسية بوزارة الداخلية، ثم شغل تباعا وظائف الأمين العام لوزارة الداخلية، والأمين العام لوزارة الصيد والاقتصاد البحري ووالي منطقة نواكشوط.
وبصفته واليا لمنطقة نواكشوط خلال عامي 1985 ـ 1986، تمكن المرحوم من توسيع شبكة علاقاته على المستوى الدولي خلال الرحلات الدورية التي تندرج في إطار منظمات المدن المتوأمة والمدن المتحدة، مما شكل فرصة جيدة لإعداد دفتر عناوين مليء جدا:شيراك، عمدة باريس، دجيبو كا (زعيم الحزب الاشتراكي السنغالي خلال رئاسة عبدو ديوف)، وشبكات الفرانكفونية والعالم العربي، و أفريقيا وبقية العالم. وقد وظف شبكته لينشئ، من بين أمور أخرى، توأمة منطقة نواكشوط مع باريس.
ثم غادر منطقة نواكشوط ليشغل منصب المدير العام للشركة الموريتانية للصيدلة PHARMARIM. وبعد ذلك ببضعة أشهر في شهر رمضان عام 87، نجا من حادث مروع على طريق أگجوجت وتمكن، بفضل عزمه، من تحمل متطلبات إعادة التأهيل وخرج منه دون عقابيل بعد فترة نقاهة طويلة. وخلال تلك الفترة، غالبا ما كنت أزوره في المنزل رقم 75-79، من الحي O، شارع عبد الله ولد عبيد.
واصل لمرابط سيدي محمود مسيرته المهنية الرائعة، التي ليس لها حتى الآن، مثال في الإدارة الموريتانية.
شغل وظائف مدير مركزي، ووالي (منطقة نواكشوط)، وعين ثلاث مرات أمينا عاما لوزارة (وزارة الداخلية، وزارة الصيد، وزارة رقابة الدولة)، وثلاث مرات مديرا لمؤسسات عامة (فارماريم، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، المدرسة الوطنية لإدارة والصحافة والقضاء)، ثم مكلفا بمهمة بالرئاسة، فمفوضا للأمن الغذائي.
كما شغل 7 حقائب وزارية من بينها ثلاثة وزارات سيادية (العدل، الشؤون الخارجية، الداخلية).
رجل استثنائي
حالفني الحظ شخصيا بمعاشرته في المجال المهني كما في ميدان الصداقة. لقد سررت بمعرفته عام 1980 من خلال زميله في الدراسة بالمدرسة الوطنية للإدارة، صديقنا المشترك محمد عبد الله زيدان. في ذلك الوقت كان يقطن في شارع عبد الله ولد عبيد بالحي O، غير بعيد من الكنيسة الكاثوليكية سين جانه. كان ذلك في منزل المرحوم، العالم بابه ولد محمد عبد الله، أستاذ الفلسفة ومدير المعهد التربوي الوطني حينها. كان المرحوم لمرابط سيدي محمود وقتها طالبا متدربا بالمدرسة الوطنية للإدارة، لكن أسلوبه الراقي وجديته لا يمكن أن يفوتا زواره: غرفة نظيفة بها مكتبة صغيرة تشمل آخر إصدارات الكتب والمجلات النادرة، لوموند ديبلوماتيك، نوفيل أوبسرفاتور، جون أفريك… ويمتلك راديو ترانزستور رقمية ومسجلة للاستماع بشكل منتظم إلى فنانه المفضل ولد عوه. في هذه المرحلة، كان المرحوم لمرابط سيدي محمود يرسم مساره.
خلال عمله بمنطقة نواكشوط، كنت وزيدان نزوره بانتظام بشارع عمر بن الخطاب، حيث اختار محل سكنه قبالة مديرية العقارات والتسجيل والدمغة. كان زواره من نخبة المجتمع: وجهاء، موظفين سامين، أدباء وفنانين، رغم أنهم أكبر منه سنا، نذكر منهم المرحوم سيدنا ولد الشيخ الطالب بوي، المرحوم يحيي ولد محمدو، عزيزي ولد المامي، أحمد ولد غناه الله، محمدو ولد محمد محمود،المرحوم محمدن ولد سيد إبراهيم، وصديقه الذي لا يفارقه خطري ولد بيه والقائمة تطول ……. كان منزله ملتقى للعظماء.
وفي وقت لاحق، عملت في عدة سفارات، وكان لي شرف استقباله كلما زارنا، كما هي الحال في باريس عام 1996، حيث يمتازلمرابط سيدي محمود بأسلوبه الذي يجمع بين البساطة والأناقة في الثياب، عرفني به على مصمم أزياء باريسي « الرجل العجلان »، ففي ذلك المتجر كان يخيط قمصانه الجميلة على المقاس، مختومة بحرف L الذي غذي خيال وأوهام عدة أشخاص اتهموه بحمل الحرف الأول من اسمه على قمصانه، لكن من يتهم لمرابط سيدي محمود بجنون العظمة لا يعرفه البتة. لم يكن ذلك الشعار سوى العلامة التجارية المسجلة للخياط « الرجل العجلان ».
خلال سنوات 2000، كنت أزوره في منزله الحالي بالحي A في تفرغ زينة قبالة الجامع المسمى « مسجد ولد العباس ». لا يزال كما كان، بشوشا، مضيافا محاطا بنخبة المجتمع. وهناك لقيت معه الولي محمذن ولد محمودن الذي أصبح رفيقه الملازم له.
وفي يوم 5 أغسطس 2005، خلال الانقلاب الذي أطاح بنظام معاوية ولد سيد أحمد الطايع، كان في مهمة في داكار وكنت وقتها أعمل في السنغال. وبعد البحث دون جدوى عن السفير، اتصل بي حوالي الساعة 8 صباحا وطلب مني الالتحاق به في فندق ميريديان. عند وصولي إلى الفندق، لاحظت أنه كان بالفعل في مكان الاستقبال مع معاونيه والولي محمذن ولد محمودن. أخذني جانبا وقال لي بهدوء ه الأسطورى « لم أستطع الاتصال بسعادة السفير ، أرجو منك أن تبحث عنه وتطلب منه اتخاذ التدابير لنقلي بالسيارة إلى نواكشوط فورا. أبلغكم أن تغييرا على رأس الدولة يجري الآن ». وبصفته موظفا مثاليا، يتحمل مسؤولياته، عاد لمرابط سيدي محمودفي نفس اليوم إلى نواكشوط بالسيارة.
على مدى ثلاثة عقود، ظل لمرابط سيدي محمود، يجود بالنفس والنفيس حتى آخر لحظة لخدمة الدولة. كان وطنيا غيورا، مبدعا، وبناء ورجل المهمات المستحيلة. قال بعضهم إن حياة الرجل تتلخص في الانطباع الذي خلفه. وسيظل خبراء أسرار الإدارة يتذكرون طويلا المسار الفريد لهذا الرجل الاستثنائي.
حضر جمع غفير من المواطنين الصلاة على جنازته، منوهين به على النحو المناسب بجامع ابن عباس. لقد مدحوه وبكوه وتأسفوا عليه. ودفن في المقبرة القديمة بلكصر إلى جانب أحبته: والدته المرحومة عفا منت هنون وصهره ووكيله خلال سنوات الدراسةالمرحوم بابا ولد محمد عبد الله.
تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته. إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ.
أحمد محمود محمد أحمدو (جمال)