السؤال الثقافي

لا يمكن لأي متتبع للندوات والمؤتمرات الثقافية التي تعقد هنا وهناك في الوطن العربي، سواء في مدرجات الكليات، أو في فضاءات ثقافية مفتوحة، أو لمن يحضر الأنشطة الثقافية التي تواكب معارض الكتب، وهو يتأمل نوعية الموضوعات التي تطرح، أو الجمهور الذي يتابعها، سوى أن يتساءل: ما الذي تغير في تناول المسألة الثقافية منذ الربيع العربي؟ وما مدى تبدل الأسئلة بصدد ما يعرفه الواقع العربي حاليا؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن المؤلفات التي تظهر بين الفينة والأخرى حول بعض قضايانا الثقافية في علاقتها بالتحولات الجارية؟إن غياب تجديد الأسئلة الثقافية لتتلاءم مع واقع التغيرات ليس سوى تعبير عن جمود ثقافي وعجز فكري عن الانتقال إلى تشخيص دقيق للواقع الثقافي العربي وتقديم تصور جديد للفهم والتفسير. ولعل من أسباب ذلك غياب الاختصاصات لدى المشتغلين بالحقل الثقافي في شموليته، فالعلوم الإنسانية والاجتماعية ما تزال عندنا غير مؤسسة على أرضية صلبة. كما أن علم التاريخ ما يزال يعنى بتطور الأحداث مع التركيز على الأزمنة القديمة. ويمكن قول الشيء نفسه عن العلوم السياسية التي ما تزال منشغلة بتأويل الأحداث الجارية حسب منظورات أصحابها الإيديولوجية. ولا داعي لطرح السؤال عن التفكير الفلسفي في مختلف القضايا في صلتها بالوجود العربي وأنماط تفكيره ورؤيته للعالم؟عندما ننظر في الاختصاصات المتعلقة بالثقافة في الكتابات الأجنبية نجدها متعددة ومتنوعة. كما أن المقاربات المنهجية للموضوعات الثقافية تعرف بدورها التنوع والتعدد عينه. فالتحليل الاجتماعي والتاريخي والفلسفي والسياسي يقارب كل منها المسألة الثقافية من وجهات متعددة تتكامل لرصد مختلف الظواهر الثقافية في شموليتها وخصوصيتها. فنجد تفكيرا في نظرية الثقافة وفلسفتها. كما نجد اختصاصات تهتم بتاريخها وفلسفتها، أو بأبعادها الاجتماعية والإنسانية والأنثروبولوجية والسياسية. وتتداخل الاختصاصات وتتعدد في معالجة ما يستجد من الظواهر الثقافية، في ضوء التحولات الكبرى، وتكثر مداخل طرح الأسئلة القلقة التي تتأطر في سياق التفكير العام في علاقة الإنسان بوجوده في الزمان وعلاقته بالمحيط الذي يتحرك فيه…يغيب في ما أقرأه، وما أتابعه من دراسات وأحضره من ندوات، في أغلب الأحيان، قلق السؤال الفكري والثقافي. صار الكل يمارس «التحليل»، وباتت مسميات «المحلل» السياسي والاجتماعي، بل وحتى «المفكر»؟ تطالعنا بين الفينة والأخرى في تقديم «المتحدثين»، وفي الصفات التي تعطى لـ»المتكلمين» في مختلف الشؤون الفكرية والاجتماعية والسياسية والأدبية… وعندما نتتبع هذا «التحليل»، أو ذاك «التفكير»، نجده خلوا من أي إجراء يعتمده، أو تصور فكري ينطلق منه. فإذا الارتجال والانطباع وتسجيل المواقف الجاهزة والسائدة هو المهيمن. وعبثا يمكن للمتتبع أن يستنتج من خلال مواصلة القراءة أو الاستماع أن هناك وراء كل ذاك «الخطاب» المنجز رؤية منهجية أو خلفية معرفية يمكن أن يتأطر ضمنها، ولا يبقى سوى الكلام.سيادة الكلام غير المؤسس على السؤال يقضي بامتلاك المتكلم أو الكاتب «الحقيقة»، وما عليه سوى تقديمها عبر التمثيل لها بالاستشهادات واستحضار الوقائع المتناقضة التي تتم «قراءاتها» بصورة تبين «الانسجام» في الربط بين المعطيات. وليس لذلك من مقصد غير «الإفحام». إن عدم اعتماد «السؤال» المقلق والقلق لا يمكن إلا أن يسلم إلى جعل المثقف ينطلق من «معرفة» جاهزة، وهو في حاجة إلى تبليغها. ولذلك يضيع البحث، وتهيمن التصورات والقناعات المبنية على وجهة نظر.لذلك لا نجد في ما نتابع في الندوات والدراسات تباينات في طرح الأسئلة، أو تجديدا في صياغتها بدقة، ولا اختلافات في عمليات التحليل والتفكير، ولكن فقط نجد تباينا في تقديم المواقف المسجلة وفي وجهات النظر المسبقة، وكلها تتأسس على «حقائق» يزعم أصحابها أنها نهائية، ولا يسعون إلا إلى جعل الآخر يقتنع بها ويتبناها. ولذلك يهيمن السجال وينتفي الحوار.عندما نتساءل عن المتلقي في هذا السياق، لا يمكننا سوى التسليم بأن المتابع القلق لوقائع الساحة الثقافية سيدرك من خلال التجربة بأنه يعرف من خلال الأسماء والموضوعات أن ما سيقال ليس سوى تكرار واجترار. ولقد أتيح لي حضور بعد اللقاءات من باب محاولة معرفة مدى التطور في خطابات بعض الكتاب أو المثقفين، فإذا بي أجد أن التصورات التي شكلتها عن بعضهم هي نفسها، ولا تغيير في الأفكار التي يعبرون عنها أو في صيغتها. قد تتبدل المعطيات والوقائع، ولكنه يعالجها بالكيفية نفسها. إن الجمود الفكري وليد متابعة الأحداث فقط، وليس نتاج تجديد أدوات التفكير. ولا يمكن هذا التجديد إلا بتطوير الأسئلة وتعميق الثقافة، ولا يمكن لهذا التعميق أن يتم إلا بتجديد طرح الأسئلة.إن عدم طرح السؤال وليد الاقتناع بامتلاك الحقيقة، لذلك يكون الهاجس الأساس هو تقديم الأجوبة. ونحن نفكر بتقديم الإجابات لا صياغة الأسئلة. ولذلك ينتفي التطور، ويحصل التكرار؟سؤال لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا؟ ما يزال يحتفظ بحرارته ومرارته، رغم مرور أزيد من قرن. فهل انتهى هذا السؤال بـجوابنا وأجوبتنا وإجاباتنا عنه؟ سؤال ما زال مؤرقا، ولا يكفي الإفحام لندعي أننا أجبنا عنه. وتلك معضلة السؤال.

كاتب مغربي

سعيد يقطين

أربعاء, 08/04/2015 - 09:57

          ​