جاب خاطري كل متاهات الممكن بحثا عن تفسير لرسوخ حب الدنيا في قلوب بعضنا، حتى وقفت على آخر ربوة من الحيرة لاستحضر دليلا مقنعا على اخلاص بعضنا في حبه للدنيا وللمادة.
نظرت في البنية التركيبية للانسان فألفيتها صميما من المتناقضات، التي تخيم على تصوراته، فهو يتردد في عواطفه بين طرفي نقيض يحاصران كل لحظاته وأفكاره وتصوراته، وفي نفسه شك وإيمان يتصارعان في خلده عدد السكنات والحركات، من دون وعيه.
والذي يغيب عنا في الغالب أن بداخلنا نفس عنيدة لا تسكن ولا تهدأ وتعيش الحاضر بالتردد بين ماض الانسان وحاضرها وأمله وإيمانه، وخلال ذلك تستجيب لصدمات تغيب عنا حين نستجيب فنحن ننفعل ونخاف ونسعد في غياب تام، وليس حب الدنيا ببعيد من ذلك فهو صفة من صفات النفس اللصيقة المتولدة من ضياع أو مكبوتات غائرة لم يكشف عنها في لحظات ماضية من حياتنا،
ويختلف حب الدنيا عن الخوف من الفقر فهو يحصل مع الغنى، إنه صفة غريبة وحالة نفسية طبيعية، ويفسره بعض الناس بأن صاحبه بلغ مبلغا من كره الاستعانة بالآخر والتعلق به، حتى أصبح يبالغ في ما يمنعه من الحاجة إليه، ولو بامتلاك أخس ما ينسب لأحد من المال.
ومن الناحية الاجتماعية فلا يخفى ما لثقافة المجتمع من قوة وتحكم وحضور في قلوب أبنائه فهم يعيشون من أجل إسكات لسان الناقد الاجتماعي، ولا يخفى ما يسود في مجتمعنا اليوم من تهافت وتسابق نحو ثقافة حب الدنيا وامتلاكها بأي وسيلة فهي الهدف والوسيلة، ولا يقف دون ذلك عرض ولا طول، وتساوى في ذلك أهل السفوح والبطاح، فأمكن أن تفسر هذه النظرة بمواكبة "موضة الترف" التي تكتسح جيلنا.
ومن الناحية الثقافية فإن حياة المدن اليوم تفرض على الإنسان أن يواكب عصره ويقتني ما يستخدم في عصره من آليات الحياة الجديدة، حتى لا يوصف بالغياب والغربة، فليس غريبا أن نملك الدنيا بقصورها وسياراتها ونملك الذهب والمال والإبل والقطع الأرضية ونملك كل ما يحسن في العين من فتات الفانية حتى نعيش لحظاتنا بسعادة وسرورو لا يكدره مكدر، بل من الضروري أن يمتلك الانسان ما يغنيه عن السؤال والضياع والهوان فالفقر من أسباب الهوان والاحتقار، لكن العجب أن ينحصر فكرنا وهمنا في الدنيا وحبها وينحصر كلامنا في الحديث عن ثروة فلان وكيف حصل فلان على أمواله وأن نرتب الناس ونصنفهم حسب ثروتهم المادية وكأننا صحيفة "الاندبندنت" أو "لكارديان" أو "القدس العربي"!
فكيف نجلس ونحن بأمن وعافية وفي ترف ورغد عيش وتخطف منا آمال وهمية لحظة سعادتنا ولا حاجة لنا حينها في شيئ سوى في الراحة والشعور بما نحن فيه من نعم وشكره، يقول أحد السلف الصالح: أدركت الناس ولا حديث لهم غير الأمور الغيبية أو أمور الآخرة ولا وقت عندهم للحديث عن الدنيا وسفاسفها.
ويبقى جليا في ذهنك أننا بهذا التخبط لا نريد تنقيصا من أحد ولا نقدا لحال آخر، وإنما نبحث عن تفسير لجميع ظواهر الكون ومنها الانسان وكل ما يوحي إلينا به الزمن من ظواهر غريبة سواء ظهرت في الأرض أو في السماء أو في الانسان.
ديدي نجيب