الربيع العربي .. ثورات ليست كالثورات ..

 - للوهلة الاولي -وبتسرع ساذج - اعتقد البعض من النخب قبل المواطنين أن مايسمى بالربيع العربي اعاد الاعتبار لفكرة الثورة ودور الجموع في احداث التغيير .. اهميتها ودورها في التغيير الاجتماعي .. ودون تساؤل عن نوعية وتكوين القوى المستعدة والمحدثة للتغيير .. القوى المحركة "المدماك " وظروف وشروط التغيير .. موجباته وممكناته .. وبأهمال تام لمعادلة الداخل والخارج وتشابكهما وتداخلهما .. وهو ماكان غائبا - مشتركا للمفارقة هنا -عن وعي تلك النخب قبل الشعب أو عن افكار وبرامج وسياسات اﻷنظمة المستهدفة بهذا الحراك ..

 

- بدأ الامر في انظمة اكثر مدنية أو يسارية او تقدمية .. او لنقل في اﻷنظمة الجمهورية والجماهيرية .. مع استثناءان قليلة طالت اﻷنظمة الملكية المحافظة .. وﻷسباب اضافية أخري تعود الى الظروف اﻹقتصادية "المغرب" او المكون السكاني "البحرين" .. وهو مابدأ بمعنى ما وكأن اﻷمر هو تتويج غير منتظر لاطروحات وافكار وسياسات تلك الانظمة ومازرعته في اذهان مواطنيها من افكار حول الثورة والحرية والديمقراطية اكثر منه وعيا وافدا أو غريبا عنها .. أي وبصورة اوضح بدأ اﻷمر للوهلة اﻷولي ايضا أنه تراكم انطلق من ماطرحته من افكار ولم تحققه تلك الانظمة في مسيرتها .. تراكم انطلق من اطروحاتها ويطمح الي ان يغيرها ليطابق النظري بالعملي .. وان يحقق مافشلت فيه .. - حدث ذلك لصالح فشل "وانزياح وزحزحة " فكرة الاصلاح واستنفاذها لكل محاولات تطوير الواقع وتعديل الانحراف .. ويعود بعض من ذلك الى ضبابية فكرة الاصلاح ومرونتها ..حين قدمت كشعار أكثر منها برنامج .. مما سهل رفعه حتى من قبل من لايؤمنون به .. مما جعلها تبدو كما لو أنها فكرة قابلة للاستخدام والتملص من غاياتها ووعودها .. او انها فكرة تختزن اهداف خفية تتناقص مع ماتعلنه على الدوام .. خاصة في مجال العمل والممارسة .. لتتحول مع استنفاذ فرصتها في التجلي والتطوير ..

 

في لحظة ما .. الي هدف مضاد حين اعتبرها البعض فكرة تسعى لادامة ماهو قائم واﻹكتفاء بتغيير قاموسه اللفظي اكثر منها تغيير واقعه السياسي واﻹجتماعي ..وحين لم تسع الى تطوير حقيقي يطال البنى والهياكل القائمة و المترسخة ويسير بالوعي تدريجيا الي مستوي افضل .. وهو ما زاد من عدم الثقة في مروجيها وازدياد قتامة امكانية تصور الخروج من هذا الواقع بالطرق السلمية واﻹصلاحية .. فلقد استخدمت هذه الفكرة "الرجراجة" بامتياز من النخب الطامحة ومن النظم الحاكمة على حد السواء .. كل لمايراه يخدم طموحاته و اهدافه واستراتيجيته .. اي خدمة الهدف الواحد من مواقع مختلفة .. مما ادي في النهاية الي فقدان الثقة في فعاليتها وفاعليها .. وراكم الاحتقان الذي جعل فكرة الثورة تعود وتتصدر الميادين بعد ان ساد المناخ المناسب لظهورها ..

 

- الا ان فكرة الثورة وفي معناها الشامل -نظريا على اﻷقل- ليست تغيير نظام بنظام او "لنقل استبدال" حاكم بحاكم او مجلس بمجلس او حتى تلفزيون بآخر فقط .. بل هي فكرة ممتدة وليست نوويه .. يتعين الحكم على نتائجها بما تنتجه وتؤدي اليه .. مدي فعاليتها في احداث تغيير جذري ينعكس على افكار وقناعات وحياة الناس ومعيشهم اليومي .. كما أن أي ثورة تحتاج الي ثوار تشربوا فكرة اهمية التغيير .. يثمثلونه ويجسدونه .. والي افكار وايقونات ورموز وشعارات وشخصيات تلهم وتحرض وتدعو الي التغيير وتمارسه .. وهو مالم يكن واضحا أو معينا ومحددا في الفضاء العربي حين ظهرت تباشير ربيعه .. وحين تحمست له اطياف مختلفة ومتنوعة .. يفرق بينها اكثر مايجمع .. ويقترب بعضها مع النظم التي يعارضها اكثر من قربه مع من يعارض معه .. -ولعل نظرة الى مايسمى قوى الربيع العربي تكوينها وغايتها .. مرجعياتها ومنطلقاتها ..

يجعلنا نصل الي مايمكن ان نسميه خصوصية الربيع العربي .. التى لم تكن يوما لصالح العقل واﻹقناع والسلمية والحوار .. بل لصالح الجهل والتخبط وفقدان الرؤية .. واﻷدهي من ذلك كله هو سقوطها التام في احابيل المؤمرات الخارجيه .. واستراتيجيات اﻵخرين التى لم تكن يوما لصالحها او لصالح بلدانها حتى وإن رفعت واستخدمت الشعارات البراقة لتمرير ماتريد أن تصل اليه من اهداف .. كالحرية ودعم شرعية المطالبة بالحقوق والديمقراطية ومقاومة اﻹستبداد .. مما ادخل هذه القوى ومن ورائها بلدانها في متاهة متجدده .. متاهة ملغزة .. لن يكون فك طلاسمها أو الخروج منها سهلا في أمد قريب .. وهذه اﻷطياف تتكون من :

 

- المجموعات المدنية والحقوقية .. تلك التي تنسل من تصور لمجتمع مدني يهدف الى الترقي بثقافة الحقوق ومدنية الدولة ..باتخاذها لمسافة من الدولة ابعد من مسافتها مع المنظمات والدول الراعية .. مسافة سمحت لها بأن تكون داعما وضاغطا على سياسات دولها وبرامجها .. وتعتقد هذه المنظمات - التى لايتجاوز اعداد منتسبي بعضها اصابع اليد الواحدة .. أى تعمل دون أن يكون لها إمتداد جماهيري او شعبي .. ان الطريقة المثلي للتغيير هي النضال المدني السلمي .. من خلال المسيرات والتظاهرات واﻹعتصامات .. مع لغط وريبة في مصادر دعم وتمويل هذه المنظمات او حتى من تلتقي معهم من اهداف وسياسات لمنظمات ودول أخري وانعكاس نضالها المحلي على ماتقدمه من خدمه سياسات الاخرين في بلادهم ..

 

- مجموعات الاسلام السياسي بأطيافها المختلفة من اﻹخوان الى القاعدة مرورا بالمقاتلة وانصار الشريعة .. وقبل ذلك الحركات واﻹتجاهات والمذاهب السلفية .. حركها جميعا تاريخ صراع طويل مع السلطات القائمة .. وماتراكم في وعيها ووجدانها من تجارب حانقة وغاضبة ومظالم .. انعكس على رغبتها وتفكيرها في رد الفعل والانتقام لرد الاعتبار علي حساب فكرة تقديم تصور مغاير لمجتمع اسلامي معاصر .. مجتمع يعيشون فيه علي قدم المساواة مع اﻻخرين المشتركين معهم في الدين والمختلفين معهم في الرأئ ..

 

- أطر وأجج وسرع حركة هذه القوى .. المدنية واﻹسلامية .. مناخ غربة واحتقان وغضب الأجيال الشابة .. عصب المجتمعات العربية بعد انسداد أفق احلامها في العيش الكريم والتطور والترقي .. مناخ لوح بتجارب تنموية هجينة ومستنسخة من بيئات أخرى .. لاتشبه بيئات بلدانها .. محدودة وليست شاملة .. ولاتستهدف عموم مواطنيها .. ولا كل مناحي حياتهم .. مما جعلها تجارب وهمية ومتخبطة .. تجارب أدت الى زيادة قاعدة الفقر .. وزيادة تراكم الغنى وتقليل فئة المستفيدين من ريعها وفيئها .. تجارب بدت وكانها تدير الفساد ولا تحاربه .. مما رسخ وعكس تفاوتات وفوارق كارثية .. تجارب تآكلت معها الطبقة المتوسطة .. حاملة النهوض في أي مجتمع حديث ..

-اما النموذج النظري او اﻹطار التفسيري أو "البارادجم " الذي تنطلق منه هذه الثورات فلم يكن نموذج أو افكار الحركات الثورية وثورات اليسار او ثائريه كتشي جيفارا وغيره .. او حتى افكار ثورات التحرر القومي العربي كعبدالناصر ..

 

رغم ملاحظة عودة بعض شعاراتهم وبعض صور رموزهم - على استحياء - في بعض الميادين الملتهبة .. ولا حتى استحضار نماذج الثوار المسلمين على الظلم من التاريخ افراد كسفيان الثوري او ابوذر الغفاري او حتى الحركات الثورية في الاسلام كالقرامطة والزنج وغيرهم .. بل أطر حراك هذه القوى "اسلام يميني " مشبوه اﻷهداف والتوجهات .. من خلال تحمس وتبني ودعم بعض النظم الملكية واﻹمارات القزمية لهذه الثورات وقواها .. ودعمها ماليا وسياسيا واعلاميا .. بل والمشاركة معها عسكريا .. يحركها صراع بنيوي مع اﻷنظمة الثورية العروبية و التقدمية ﻷكثر من نصف قرن .. لتتبني قيم الحرية والديمقراطية وثقافة الحقوق دوليا ولترفض تلك القيم وتجرم تبنيها من شعوبهم محليا وهي مفارقة لافتة هنا ..وفي تناقض يستدعي حتما البحث عن اسباب اخري -غير مايعلن أو يقال - وراء هذا اﻷنحياز .. ﻷن اﻹنحياز لمطالب الشعوب كل لا يتجزا .. ولايمكن التعامل معه بإنفصام .. يتناقض فيه النظر والتقييم والتعامل مع شعوبهم في الداخل مع ماتتبناه سياساتهم الخارجية من قيم ومصالح ..

 

- كما سجل الربيع العربي حضور ودعم وتبني المرجعيات والرموز اليمينية الغربية بشكل غريب ومريب .. تلك التى تمارس العنف والقمع ضد مواطنيها في شوارع وضواحي عواصمها "باريس".. وتستهجن التعامل العنيف مع مواطني بنغازي .. دونما شعور بالحرج او التناقض .. كما نظر وهلل لثورات هذا الربيع العربي "المميز" رجال فكر "مميزون" يتبنون التنظير والدعم والمساندة ﻷبشع نظام عنصري عرفته البشرية يقوم على اغتصاب واحتلال ارض وتشريد شعبها وتهجيره .. نظام وحيد في العالم يقوم على "الفصل العنصري" الذي رفضه العالم اجمع في صيغته اﻷفريقية الجنوبية .. دولة دينية فريدة في العالم يتناقض وجودها مع قيم الحرية والعلمانية .. تلك التى تحدث عنها اولئك المفكرين بغية الضحك بها على عقول المتظاهرين المحتفلين به "والسخرية منهم " في ميدان الشجرة ببنغازي ..

 

- اى ان هذه "ثورات الربيع العربي " هي ثورات تبناها واحتضنها وحرك قواها وخطط للاستفادة منها يمين عربي معاد للديمقراطية والحرية .. يمين ملوث بالاستبداد والقمع والفساد .. متحالف مع يمين اوروبي عنصري .. يتسم بدعم دولة اﻹحتلال العنصرية والمعارضة للقضايا العربية العادلة .. - تلك كانت الصبغة الغالبة التى اصطبغت بها ثورات الربيع العربي دوليا .. لكن الصبغة التي تلون بها محليا هذه المرة هي صبغة الدم القاني .. دم ابرياء ذهبوا ضحايا .. وقود في اتون حروب استراتيجيات اﻵخرين .. ابرياء ماتوا دون ان يعرفوا لماذا .. وكانوا عبارة عن تروس في دولاب دولي ظالم .. ورد فعل محلي غابت عنه الحصافة والحكمة والتعقل .. ابرياء رحلوا دون أن يعرفوا ماذا ستنتج أو ستزود تضحياتهم "استشهادهم " هذه .. رحلوا دون أن يعلموا انها لم تنتج غير المزيد من الفتنة والحقد والثارات والدمار .. ليكونوا بجدارة "شهداء" عمليات تضليل وتسخير منظومات اعلامية ومالية وفكرية ونفطية وغازية عربية ودولية ..

 

منظومات تولت التعبئة والشحن والتسخين والدعم والتمويل .. وتجميع ووضع الحطب للنار .. لتشتعل بعيد عنهم .. وكأنهم يقولون لشعوبهم .. هذا مصيركم حين تفكرون في الثورة علينا .. وربما تكون تلك رسالتهم وهدفهم منذ البداية .. ولعلهم نجحوا فيه ... مؤقتا .. - لعل المستفيد الوحيد .. المحلي ان جاز اعتباره كذلك .. مرحليا ومؤقتا وليس استراتيجيا ودائما .. من هذا المناخ هي حركة اﻻخوان المسلمين .. حين التحقت "متأخرا" بهذه الثورات .. وجيرتها لمصلحة برنامجها السياسي القديم في الوصول للسلطة .. والتمتع بمايعوض فترات السجن وسنوات المطاردة واﻹقصاء .. لكن تجربتهم الفاشلة في تقديم البديل المقنع .. البديل عن النظم القائمة ..

 

وعجزها عن بلورة مشروع عصري .. واقعي وحقيقي .. وليس نظري وشعاراتي .. مشروع يتجاوز شرعية تلك النظم سياسيا واقتصاديا وأمنيا .. بل انها تصرفت بنفس روحية من ثارت عليه .. وبالغت في ذلك حتى تجاوزته .. هو مايفسر عودة اﻹعتبار لتلك النظم ورموزها .. وتحديدا حكم المؤسسة العسكرية العربية أو رموز منها .. بل حتى تفهم طريقتها في التعامل مع قوى اﻹسلام السياسي .. ولو بقمعهم واستئصالهم .. مما يجعل مجتمعاتنا تعود الى نقطة البداية .. نقطة الصفر .. ان لم تكن دخلت مرحلة السلب .. -لذلك كانت هذه "الثورات " ثورات ليست كالثورات .. بل هي اقرب الى وصف المؤامرات الجالبة للخراب والدمار .. وليس الثورات التي تنشد التغيير لﻷفضل .. وكأن "ربيعها" شتاء قاتما وحزينا على بلدانها وشعوبها .. والأمر هو تأثيره على مستقبلها ..

 

مقال للدكتور عبد الله عثمان عبد الله ..مفكر عربي من ليبيا 

خميس, 03/07/2014 - 12:42

          ​