الطريق إلى بلاد الفرنجة..

هدير محركات الطائرة الرئاسية يقطع سكون ليل العاصمة نواكشوط التي خلدت للنوم بعد يوم حافل بالنشاط.. يأخذ أعضاء الوفد المرافق لرئيس الجمهورية أماكنهم، قبل دخول الرئيس وحرمه إلى الطائرة...
الواحدة بعد منتصف الليل، يطلق قائد الطائرة سيقانها للريح، تلتهم مدرج الإقلاع بسرعة تزيد على الـ300 كلم في الساعة، وبعد لحظات تترك أرضية المطار، سابحة في الفضاء الخارجي إلى العاصمة الفرنسية باريس...
استسلم عدد من أعضاء الوفد للنوم مباشرة بعد اختفاء "شارة" حزام الأمان، وانشغل آخرون بأحاديث جانبية، فيما فضل فريق ثالث وهو الأقل الاستفادة من وقت الرحلة وسكون الليل للمطالعة....
انشغل قائد الطائرة ومساعدوه بمراقبة سير هذا الطائر المعدني العملاق وهو يجوب هذه "القفار" وحيدا، وسط ظلمات بعضها فوق بعض.. كل شيئ يسير على ما يرام، فقد اطمأن المهندسون على وضعية الطائرة قبل إقلاعها بقليل..
بين الفينة والأخرى تبدو على شاشات المراقبة بعض المطبات الهوائية البسيطة، يتعامل معها القائد ومساعده بمهارة تخفف تأثيرها على توازن الطائرة، حتى لا تعكر صفو منام من طوحت بهم الأحلام خارج الرحلة..
على مسار الطائرة تبدو أنوار المدن كما لو كانت ثريا عملاقة سقطت من السماء أو عكستها صفحة مياه البحر الأبيض المتوسط الهادئة.. مشهد ساحر ولوحة فنية رائعة خاصة في هذا الوقت من الليل..
تمضي عقارب الساعة بطيئة جدا، أو هكذا يخيل إليك وأنت تتأمل هذا الليل البهيم من نافذة الطائرة وقد غط من هم حولك في نوم عميق.. ما يزال الليل يرخي سدوله، كأن نجومه "شدت بأمراس كتان إلى صم جندل" على لغة الشاعر الفحل أمرؤ القيس، وما يزال طائرنا المعدني يمد جناحيه سابحا في هذا الفضاء اللامتناهي..
بعد ساعات طويلة من الإقلاع عبرنا خلالها آلاف الأميال لاح ضوء الصباح من مشرق الشمس، حيث مهبط الوحي ومراقد الرسل والفاتحين ممن وطئت سنابك خليهم بلاد الفرنجة هذه التي نهبط الآن بسلام في مطار عاصمتها العريقة.. 
تبدو باريس مدينة عملاقة، تتباين هندستها المعمارية تباين ساكنتها، حيث تتجاور المباني العتيقة بنمطها المعماري الذي يعود للقرن الثامن عشر، مع ناطحات السحاب الحديثة في كل أحياء المدينة تقريبا..
هي نفس المدينة التي أذهلت رفاعة الطهطاوي حين زارها لأول مرة عام 1826 على رأس بعثة علمية، وتغنى بها الكتاب، وناجى شعراؤها نهر "السين" في الهزيع الأخير من الليل..
في باريس تتعايش ملل ونحل، وألوان مختلفة من أصقاع الأرض كافة، فهناك العرب والأفارقة- وهم بناة فرنسا الأوائل والمدافعون عنها في وجه التمدد النازي- وهناك الجنس الآري، والفرنسي، والاسباني والهندي والصيني..
وفي باريس هناك من يعبد الله، ومن يعبد الشيطان والدواب والشجر والحجر، وهناك من لايعبد شيئا ولا يؤمن بشيئ.. وعلى رفوف المتاجر تتجاور الخمور والتمور والمياه المعدنية..
استغل الفرنسيون هذا التنوع فحولوه إلى مصدر ثراء، لبناء حضارتهم التي باتت واحدة من أكثر الحضارات قوة ومنعة، في نفس الوقت عمل حكام باريس السابقون منهم واللاحقون على استغلال التنوع العرقي والثقافي معاول هدم وتفرقة في مستعمراتهم السابقة، فأشعلوا الحروب ودمروا المنشآت وأذكوا النعرات خارج حدودهم، تزامنا مع بناء المصانع والجسور وتسيير قطارات الأنفاق في كل المدن الفرنسية..
في باريس وجد رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز مكانته المستحقة بين ضيوف احتفالات الذكرى الـ70 لإنزال الضاحية، فتقدم الصفوف على متن حاملة الطائرات "شارل ديغول" خلال العرضين الجوي والبحري في شواطئ مدينة "تولون" حيث نفذ الحلفاء إنزالهم البحري لاستعادة فرنسا من قبضة الجيش الألماني قبل 70 عاما..
حظي ولد عبد العزيز بتقدير يليق به كرئيس للاتحاد الإفريقي يسعى لتكريس الديمقراطية والدفاع عن الحريات الفردية والجماعية في ربوع القارة، بعد أن جسدها واقعا معاشا في بلاد الملثمين...
من الدروس التي لم يستوعبها الفرنسيون أن كل المصائب التي ألمت بهم -بما فيها الاحتلال الألماني- هي نتاج طبيعي لسياساتهم الاستعمارية التي بدأت بالحروب الصليبية مرورا بحملة نابليون بونابارت على مصر وروسيا والتي انتهت بهزيمة نكراء للفرنسيين على يد الدب الروسي أواخر القرن الثامن عشر، وانتهاء بالتدخل العسكري السافر في ليبيا وأفغانستان ومالي وإفريقيا الوسطى..
إن انشغال فرنسا بحروبها الاستعمارية في الجزائر والمغرب وإفريقيا جنوب الصحراء ساهم إلى حد كبير في سقوط باريس تحت أول ضربة جدية من قوات هتلر، فقد كان الجيش الفرنسي مشغولا بالحروب التوسعية على بعد آلاف الأميال عن بلاده، لذلك وجد هتلر الفرصة سانحة للانقضاض على عاصمة "النور" دون عناء يذكر..
والمفارقة أن باريس اضطرت للاستعانة بأبناء المستعمرات لتحريرها من قبضة الجيش الألماني، وفي هذا الإطار يندرج تكريم المحاربين القدامي من إفريقيا والوطن العربي على هامش تخليد ذكرى إنزال الضاحية..
باريس رغم مسحة الجمال والهدوء تظل مدينة المتناقضات العجيبة فقد أنجبت جان جاك روسو وفيكتور هيغو وفولتير ورجاء غارودي وغيرهم من الشعراء والفلاسفة التنويريين، لكنها أنجبت بالمقابل القديس بطرس الناسك أول من نادى بالحرب الصليبية في القرن الـ11 الميلادي، والجنرال ديغول وغورو، وساركوزي وافرانسوا هولاند وغيرهم من القادة الذين ولغوا كثيرا في دماء الشعوب المستضعفة على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط...
نترك باريس ونهر السين، وقوس النصر، وبرج أيفل، وقطارات الأنفاق والحدائق العامة، قافلين إلى هذه الأرض بمعية أول رئيس موريتاني يحمل هموم الشعب ويدافع عن ثوابت الأمة..

تهبط بنا الطائرة في مطار عاصمتنا المتواضع، وقناعتنا تتعزز بأن موريتانيا- كغيرها من دول العالم النامي- ما تزال في مؤخرة ركب الحضارة الحديثة، لكننا أكثر اقتناعا بجدية وسلامة المسار الذي نسلكه اليوم لحاقا بهذا الركب..

سيدي محمد ولد ابه

[email protected]

سبت, 16/08/2014 - 22:30

          ​