الحواجز الاجتماعية تغتال الفن في موريتانيا

أكثر الناس شهرة في العالم الفنانون، وأسعد المشاهير بمحبة الناس الفنانون، وهناك أمثلة كثيرة لنجوم الرياضة والسياسة وعالم المال والأعمال، التحقوا بالمجال الفني طمعاً في هذه الشهرة بعد أن أدركوا محدودية النجومية التي يحققها مجال تخصصهم مقارنة بنجومية الفن.

 

وبالمقابل هناك من يفضل الابتعاد عن الفن رغم الموهبة والإمكانيات والفرص المتاحة للإبداع في هذا المجال، لأن موهبته تتعارض مع مجتمعه، ومع تقاليد وأعراف ترفض الغناء والتمثيل والتلحين والرسم وتعتبرها مهناً مهينة تجلب العار والذل لكل من يمارسها، ففي موريتانيا يخجل الناس من إظهار ميولهم الفنية ويفضلون طمس مواهبهم وإخفاءها، حتى لا تتضرر سمعتهم فيصبحوا لقمة سائغة في أفواه الغير تلوكها الألسن وتشير إليها الأصابع.

يرفض مصاهرة مطرب

ويقول الباحث في التراث الشعبي عالي ولد هنون إن الفن في موريتانيا مهنة متدنية منبوذة ينظر إليه باعتبارها مسيئة للمكانة الاجتماعية، والعمل بها مناف للورع والالتزام، ولا تمارسه إلا الطبقة الاجتماعية الأقل شأنا ومكانة واحتراما بين الطبقات، ويضيف "هذا لا يعني أن الشعب الموريتاني يكره الفن بل على العكس، حيث إن الجميع لديهم القدرة على قراءة وإدراك وتذوق الفن في عمومه وبمختلف أشكاله، ورغم ذلك فإن المجتمع يحمل في داخله رفضاً قوياً لممارسة الفن يحول دون التطبيع معه".

 

ويفسر ولد هنون هذه الازدواجية والتناقض بأن المجتمع يرى أن الفن محرم، لكن الموريتانيين يحبونه ويتذوقونه وفي نفس الوقت يرفضون ممارسته ويعتبرونه متعة مؤقتة لا يجب أن تؤثر على المكانة الاجتماعية حتى إن أبناء العائلة الكبيرة يحضرون الحفلات الموسيقية ملثمي الوجوه رافضين الظهور علناً من أجل الاستمتاع بالموسيقى.

 

وتطرح هذه الثنائية التي يعيشها المجتمع الموريتاني أسئلة حول كيفية تعامل الموريتانيين مع الفنان ومستوى الفن وسط هذا الانغلاق والحصار، فالعائلات التي تنتمي للقبائل الأصيلة ترفض ارتباط بناتها بفنان لأنها تعتبره من منزلة اجتماعية أقل وأدنى، كما يرى محمد الشيخ ولد الخماري الذي رفض ارتباط أخته برجل من عائلة فنية حرصاً على سمعة عائلته، ويؤكد أن محيطه لن يرحمه إذا سمح بهذه الزيجة كما أنه ينشد السعادة لأخته مع رجل يستطيع تأمين حياة مستقرة بعيداً عن الحياة الفنية غير المضمونة، ويعترف ولد الخماري بدور وأهمية الفن في الحياة لكنه لا يستطيع مخالفة قوانين مجتمعه ويقول "مهما أسعدنا الفنانون فهم يظلون في نظر المجتمع الموريتاني أرجوزات عملها الرئيسي تسلية الناس والترفيه عنهم".

وتسببت هذه النظرة الاجتماعية القاسية التي فيها جهل بمضامين وأهداف رسالة الفن في فراغ الساحة الفنية وغياب منافسة حقيقية فبسبب هذا العرف الاجتماعي حرم كثيرون من إظهار مواهبهم وامتاع الآخرين بها، ففي موريتانيا مواهب كثيرة تجيد الغناء والتمثيل ولا تستطيع حتى الإفصاح عن إمكانياتها وطموحاتها الفنية، وفي الحالات القليلة التي خرج بعض الشباب عن القاعدة اعتبروا منبوذين من العائلة والعشيرة والقبيلة، وتحطمت أحلامهم سريعاً ليعودوا أدراجهم إلى حضن العائلة معترفين بخطيئتهم.

 

الفن لا يليق بأبناء العائلات

وتقول المطربة عائشة بنت أحمد التي تنحدر من أسرة فنية معروفة إن الفن في موريتانيا تحترفه شريحة اجتماعية تسمى بـ"إيكاون" لا يحق لغيرها ممارسته حيث تنحصر مهنة الفن على أسر معينة تتوارثه باعتباره مصدر رزق أساسيا، وتؤكد أن هناك أصواتا جميلة ووجوها تجيد تقمص الأدوار والإبداع في التمثيل، لكنها غير مقتنعة بأهمية وقيمة موهبتها، وترفض خوض التجربة خوفاً من الفشل ومن الرفض الجماعي لها بعد احتراف الفن، كما أن هناك أصواتاً نسائية جميلة لكنها ترفض الظهور وتفضل الغناء في تجمعات نسائية ضيقة تحافظ على سرها وتمنحها فرصة التعبير عن مواهبها بعيداً عن عالم الشهرة والنجومية.

وتنتقد المطربة هذه النظرة الاجتماعية القاصرة للفن وتضيف أن "أغلب الموريتانيين رغم عشقهم الشديد للفن والطرب فإنهم يؤمنون بأنه لا يليق بأبناء العائلات وأن ممارسته تنتقص من مكانة الشخص، فيكيف يمكن أن نبدع ونرتقي بالفن في هذا الوسط المليء بالازدراء والتمييز وعدم الاحترام؟".

ويرى الباحث الاجتماعي سيدي ولد سيد أحمد البكاي أن هذه النظرة الاجتماعية تجاه الفن اجتاحت جميع المجتمعات العربية إلا أنها سيطرت بشكل كبير على المجتمع الموريتاني، بسبب تشبثه بقوانين وأعراف القبيلة، ففي الدول العربية عانى الفن من التهميش والازدراء ثم ما لبث أن تغيرت نظرة الناس إليه وخفّت درجة رفضهم له، بينما لا تزال الموهبة الفنية مرفوضة ومنبوذة في موريتانيا.

 

ويشير إلى دور رجال الدين في تكريس هذه النظرة السلبية تجاه الفن، حيث إنهم يقدمون رؤية دينية متشددة تذهب إلى تحريمه أو على الأقل النظر إليه باعتباره منافياً لأخلاق التدين، رغم أنه في الغالب غناء محافظ يقتصر على ذكر الأمجاد والبطولات والمدح والتفاخر بحضارة شنقيط والمرابطين.

 

ويؤكد الباحث أن تغييراً مهماً طرأ على نظرة المجتمع الموريتاني للفن بعد أن استطاعت مطربة الوصول إلى البرلمان، حيث أصبحت الفنانة "المعلومة بنت الميداح" نائبة في مجلس النواب، كما أحدث إصدار حركة الإخوان المسلمين شريطا غنائيا بمناسبة دخولها سباق الانتخابات الأخيرة، انقلابا في المشهد الفني، وأثار ضجة كبيرة، لأن هذه الحركة كانت الأكثر رفضا للغناء والفن وأهله.

ويربط الباحث تغير هذه النظرة بدور المؤسسات ومعاهد التدريس التي ترعى الفنان والعملية الفنية، إضافة إلى زيادة الوعي والاحتكاك بالمجتمعات العربية التي تخلصت من هذه النظرة السلبية للفن، وأصبحت تنظر إليه باحترام.

 

العربية نت

ثلاثاء, 20/05/2014 - 10:39

          ​