المجد الدامي أحمد فال الدين

شاعَ في العقود الأخيرة بين مُتثاقفي بلْداننا نمط من السلبية الحالمة الناقمة على كلّ عمل مسلّح مقاوم، باعتبار المقاومة الممجدة للقوة من تمثلات الماضي البغيض. وهذا النّفس انفعال بالفكر الغربي المنبتِّ عن تمثلاته الواقعية أصلًا. وقد جنحَ الخيال الببغائي بالقوم إلى أن لاموا حكومة غزةَ مثلًا، زاعمين فشلها في التحول لسنغافورة  أخرى –وأسيادهم الإقليميون والدوليون يحاصرونها- لاهتمامها بالإعداد للقاء العدو، زاعمين أنها لو أنفقت على الطعام والشراب ما أنفقته في الإعداد للذب عن الحياض لكانت في مصاف المدن المترفة.

وكان هؤلاء الببغائيون -لترديدهم ما يكتبه أعداء المقاومة في إسرائيل والغرب- يزعمون أنّ زمن المقاومة قد ولى، وأن العالم قد تحول إلى جنّة مليئة بالسلام يكاد يرعى فيها الحمل مع الذيب، ويلاعب فيها قطُّها فأرَها، ويجالسُ فيها المسلمُ المعتزُّ بهويته اليهوديَّ المتمسكَ بصهيونيتِه.لكنّ نظرةً سريعة على الخريطة السياسة هذه الأيام تذكرنا أن السيف ما زالَ أصدق إنْبَاءً من الانهزامية المترجمة من صحائف العدو.

ينظر الناظر اليوم إلى خريطة الدنيا فيراها ضاجةً بصدى طائرات الحرب، مهتزةً بهدير المدافع، مرتعدةً تحت وقع أقدام الجنود الزاحفين فوق الخرائط المنحوتة. ثم يرى منطق القوة والعنف وسيلة الجميع، إنما الاختلاف في الوسيلة واللغة والإخراج.

فلا يكاد واحدُنا يُنهي مشاهدة مقطع لعصابات بشار تجلد حرًا أو تسلخ أبيًا، حتى تقع عينه على رأس صحفي يحزّ على أيدي ميليشات أخرى. ثم يقرع طبلةَ أذنه خبرٌ عابرٌ عن حكم بالإعدام على مئات من عشرات الآلاف من أحرار مصر المسجونين. ثم يشاهد بعدها خبرًا عن الجيش الروسي الرابض شرق أوكرانيا، ثم تتراءى له الطائرات الأميركية محلقةً في سماء الشام والعراق حاملةً الموتَ الزؤام، وتحت ظل أجنحتها تتهارش قواتُ البيشمرغة والمليشيات الشيعية المسعورة وقوات الدولة والقبائل.

 

خلاصة هذه الصور أن السيف ما زال –وسيظل- أصدق إنباءً من الكتب.

 

لقد انتشر خلال العقود الماضية -كما ألمحنا- رأيٌ يرى أن الحروب قد ماتت، وأن التاريخ انتهى إلى نمط من الحياة لا تنتطح فيه عنزان لضرورة التواصل بين البشر وسيادة المكدونالية والعولمة من ترابط بين البنوك وحاجة الدول الكبرى للخام في مناكب الأرض مما يحصر النزاع في أنماط جديدة غير القتال التقليدي بين الجنود.

 

إن دروس التاريخ وشواهده لا تفتأ تذكرنا أن القوة أهمّ محرك لعنصر التاريخ. وحسبك أن تمسك أي كتاب مدرسي تاريخي لترى اللحظات الكبرى المستقرة في الذاكرة الجميعة للأمم لا تقف إلّا عند المعارك الطاحنة.

فسيحدثك المسلمون عن ميلاد مجدهم صبيحة يوم بدر، ويحدثك الغربيون قاطبة عن معركة بلاط الشهداء كبداية للحضارة، ويفخر عليك الإسبان بحروب الاسترداد (ريكوكويستا). بل إذا طالعتَ كتب التاريخ على مستوى الدول القُطْريّة ستر الفخار بمعارك جورج وشنطون، ومعركة واترلو، وصولًا إلى كل دولة وقصص حروبها الخاصة الصغيرة مهما صغرت.

 

ذاك منطق التاريخ، فالإنسان حيوان محارب.

 

إن ما تمور به بلداننا مخاضٌ طبيعيٌّ لأمة أجلتْ معركتها مع مستعبديها منذ أربعة عشر قرنًا. فأي بلد يحكمه حاكم مستبد ظالم سيجد نفسه لا محالة أمام أحد طريقين مهما طال الزمن:إما ثورة عارمة يتفق بعدها الشعب على عقد اجتماعي عاصم، وإما حرب أهلية يتلعم الناس فيها ضروروة احترام بعضهم بعضًا.

إنّ الأمم التي ترمي سلاحها، تُقتل به، والشعوب التي تؤثر سياط السجّان على سلبيات الثورة يطول مقامها في سلام السجون ثم تستيقظ يومًا وقد أظلتها الحروب الأهلية.

 

نعم، قد تكون سياط الحرب موجعة اليوم في بلاد الشام وليبيا والعراق وفلسطين ومصر، لكنها ستكون بردًا وسلامًا يوم تقود لعقد اجتماعي يحترم الإنسان وهُويّته.

يومها، سيقفُ جيلٌ من العرب يصف جيلَنا هذا بما وصفت به أم الصريح الكندية رجالها يوم قالت:أبوا أن يفروا والقنا في نحورهم * ولم يرتقوا من خشية الموت سلّمافلو أنهم فرّوا لكانوا أعزةً  * ولكن رأوا صبرًا على الموت أكرما!

ثلاثاء, 16/09/2014 - 09:06

          ​