العرية.. الأرض المنسية!

مع بداية نُشُوء الدولة الوطنية وفي خِضمِّ جفاف ماحق،أتى على البقر والشجر، ترحَّلَ ساكنة آبار "إِيزَاكنْ" و "آمْغَيْجْ" و "احْسيْ لغنم" و "احْسيْ إِدَميجنْ" وما جاورها من آبار و احساءٍ تتناثر على رقعة جغرافية تمتدُّ من "احْسيَّاتْ أهل بابوكْ" جنوبا إلى "احسي ولد البكرات" على مشارف "آوْكَارْ".

 

لم يكن بالساكنة ملَلٌ من رحلة الشتاء والصيف الأزلية تتبعًا لِمَسَاقط المطر وبحثا عن مظَانِّ الكلأ في بلادٍ أنيطت بهم عليها التمائم ولا مست جلودُهم أول ما لامستْ تُرَابَها، لكن لِمسار القدرِ وصَيْرُورة الزمن أحكام لا تُنقضُ إلاَّ بعد حين، إن نقصت! تَرحَّلَ الساكنة ــ إلاَّ من وهبه الله قدرة على مواجهة غول الجفاف والتصحر وضيق الحال وهم قلة لعمري ــ إلى العاصمة الفتية نواكشوط وقد اسْتَوتْ حينها دورا تُعدُّ على أصابع اليدين من الإسمنت في الجانب الشمالي الغربي من ربوعهم، حيث كانوا ينتجعون في سهولها خريفا ويَصيدونَ في شواطئها شتاءً. اكتفى القادمون الجدد.. السكان الأصليون، بالإقامة في أطراف ربوعهم القديمة.. عاصمة موريتانيا الحديثة.

تخيروا لضرب خيامهم "بو احديده" و "تجنين" و "لعكيله" و "اغْنَوْدرتْ" و "ورَارَ" و "تنويش" و "تنْسْويلم" حتى لا يُضيِّقوا على جيرانهم، الذين جاءوا هذه المرة بقصد الإقامة الدائمة. كانَ شغلُ الساكنة الشاغل المحافظة على موروث ثقافي وحضاري حمله إليهم خلف عن سلف، وهو أمر من بين أمور أخرى حدَّ من حجم حضورهم في مفاصل المدينة الحديثة التي كانت حينها المدخل إلى موريتانيا الدولة، واستعاضوا عن ذلك بالنشاط في قطاعات ناشئة، لا سلطة للدولة عليها، ولا شِيةَ فيها من منظورهم الديني كالتجارة. ظلت الدولة مُقصِّرة في حق ساكنة منطقة نواكشوط الأصلية وإن اختلف ذلك التقصير من نظام إلى نظام وذلك موضوع طويل الذيل!

وفي نهاية سبعينيات القرن الميلادي المنقضي وخلال أوج ما عُرفَ بنظام الهياكل، ترحَّلَ معظمُ من كان في نواكشوط من الساكنة، وانضمَّ إليه كلُّ من غالبهُ كرُّ الجديدين في فيافي "العرية" و أطراف "إكيدي وبرويتْ ولخشومَ" ــ قيل حينها في آذان الساكنة: نواكشوط يقتل المجموعات ويذيبها في محلول المدينة المضر بالاسم العام و "التهيكل" في واد غير ذي زرع يبعثها من مرقدها ــ . انتظمَ الجميع على الطريق المعبد بين نواكشوط وروصو كعقد يُطَوقُ جيد فارعة زنجية..

 

قال الراحلون حينها ربما هو خير؛ فهذه أطراف مرابعنا الغربية، وبدل "احسي لغنم و "إيزاكن" ... إلخ

هذه "أكْفُرْده" و "اجْدير" و "بجمة" و"اجعيرنية" و "اتويرجة" ثم إن نواكشوط (المسلوبة) تكاد تلامس الأطراف الشمالية لـ "هيْكَلِنا" الشمالي، كان سيل وعودِ الدولة يومها جارفا؛ فأسباب العيش الكريم وكل الخدمات ستكون بادية للعيان مع أول ضربة معول في أول كوخ، ومنذ تلك الضربة التي مضى عليها قرابة أربعة عقود والناس تنتظر!

يومها جلبوا الماء من نواكشوط عن طريق صهريج ليشرب الأطفال واليوم مازالت الناس تجلب الماء للأطفال عن طريق حفيد ذلك الصهريج! و في مطلع تسعينيات القرن الميلادي المنتهي صارت العرية بلدية من أكثر بلديات الوطن سكانا؛ حيث يعيش على أديمها قرابة خمسين ألف نسمة، وعلى الرغم من ذلك فهي البلدية الوحيدة التي لا تتوفر على أي شيء مقدم من الدولة، فلا ماء ولا كهرباء ولا نقطة صحية واحدة ولا تعليم ولا زراعة ولا تنمية! فما الذي جناه أهل هذه الأرض حتى تتغاضى عنهم الدولة بهذه الطريقة وتعاملهم بهذا الأسلوب؟!

صحيح أن ساكنة العرية لا يسألون الدولة إلحافًا، ولا يقطعون الطرق لإيصال مطالبهم الملحة إلى المخزن، ومسؤوليها ــ على قلتهم ــ والمتصدين للسياسة من بنيها ــ على بِدائيتهم وتخبطهم ــ أمْيَلُ للنفع الخاص من العام!

لكن للصبر حدود، ولا ينبغي بل لا يُتصور أن تظلَّ الدولة تتفرج على مواطنين لا مطعن في مواطنتهم ولا غبار على وطنيتهم يرابطون على أسوار نواكشوط محرومين من أبسط خدمة.. لقد ظلت الدولة خلال عقود تُمَنِّي أهل العرية بمشروع آفطوط الساحلي وتعِدهم بماء زلال وفير ينسيهم سنوات العطش السرمدي.. وجاء المشروع..!

 

وبعد أن هدَّمَ عديد المباني التي اعترضت طريق الأنابيب الضخمة على امتداد البلدية، اكتفى أهل العرية بالاستماع في صمت إلى خرير مياه آفطوط الساحلي تتدفق رقراقة إلى نواكشوط دون أن يجدوا منها (ما يطهِّرُ الرعاف) وبنفس الطريقة الاستعراضية مرت أعمدة كهرباء مننتالي مخترقة البلدية من الجنوب إلى الشمال.

لقد كتب على العرية أن تظل محرومة مقصية مهمشة من أي تنمية، تبني عليها عناكب النسيان برعاية الدولة وتقبُّلِ المسؤولين والساسة؛ فمنذ أربعة عقود لم ينجز شيء ولم يتغير من الواقع ــ الذي ظُنَّ حينها أنه مؤقت ــ شيء، فقط الطريق الذي كان حينها معبدا سالكا فسيحا رقَّ وغزت التجاعيد كامل جسمه وشاب!!

 

النبهاني ولد محمد فال

خميس, 18/09/2014 - 08:16

          ​