انتشار الجريمة في ظل التناقضات الغريبة! بقلم/ م. محفوظ ولد أحمد

سبعة لصوص (7) مسلحين بالسيوف والسكاكين، وما يشبه المسدس، إن لم يكن مسدسا فعلا (ولم لا؟)، هاجموا في هزيع الليل الأخير صاحبي البقالة النائمين بها، بعدما شلوا قدرة الحارس (بالقوة أو الرعب) وكسروا بآلاتهم البدائية الباب الحديدي، ثم انتهبوا ما غلا ثمنه وخف حمله أو ثقل قليلا: النقود، بطاقات الرصيد، الهواتف، الساعات، الحواسيب، صناديق الشاي...

 

كان المسكينان بالداخل قد شُـد وثاقهما وجمدا تحت تهديد الموت، وتمنيا لو يقدر اللصوص على إفراغ البقالة بسرعة دون أي مزعج من الخارج ليتحققا من حياتهما! وكان المزعج الوحيد الذي لا خوف من حضوره في تلك الساعة الهادئة هو "دوريات الأمن الوطني التي تسهر، راجلة ومحمولة، على حماية حياة كل مواطن وممتلكاته، بل وسكينته في مرقده حتى تبزغ الشمس"!!!.

لكن صاحبي البقالة المسكينين لم يخطر ببال أي منهما وجود مثل تلك الدوريات الخيالية، لدرجة أنهما بعدما تركت لهما العصابة روحيهما المذعورتين، ترددا في إبلاغ الشرطة عن الحادث... وقد أيد معظم الجيران من سكان الحي ذلك، قائلين إنه لا فائدة البتة من ذلك البلاغ "السخيف"، لأنه حتى لو وجدت مفوضية للشرطة ووجد بها وكيل شرطة إضافي فلن يكون معه قلم ولا ورقة لتدوين رقم التصريح، وسيطلب من "الشاكي" (نعم، الشاكي! فكروا في معنى هذه الكلمة في هذا الموقف!!) انتظار مجيء أحد زملائه ليرافقه إلى مسرح الجريمة، إذا كانت لديه سيارة لنقله وإرجاعه... وإلا فسيارة المفوضية متعطلة، أو لا بنزن فيها، أو هي عند المفوض أو الضابط، أو... النائم في بيته أو الغائب في شأنه!.

البقالة المذكورة، هي في الواقع بقالات كثيرة لا يسلم بعضها من هذا "القدر" كل ليلة. ولكن التي نعني الآن بقالة في عرفات معروفة بمرابطة وحدة من الدرك الوطني أمامها خلال فترات الأحداث السياسية "المهمة"؛ مثل الانقلابات العسكرية والمظاهرات والانتخابات... (هل فكر اللصوص باحتمال وجود تلك الوحدة أم اتكلوا على أنهم خارج "اختصاصها" إن وجدت!).

أما أصحاب البيوت النائمون في دورهم أو الغائبون عنها إلى أعمالهم، فلا يحتاج نهبهم لحلول الظلام، بل يتم على مدار الساعة. صحيح أن ما يغنم منهم اللصوص لا يكون غالبا بقيمة ولا رواج ما ينهبون من البقالات والمحال التجارية. ومع ذلك فإن ما يتركون لهم ــ باستثناء الرعب والحسرة ــ أقل بكثير مما يُبقونه للتجار.

لقد أصبحت مأساة فقدان الأمن العمومي في نظر وتقدير السلطة العمومية في بلادنا أمرا عاديا لا يلفت النظر فضلا عن أن يحرك ساكنا. بل إن عمليات الحرابة والنهب المتزايدة التي تروع الناس وتسلبهم أقواتهم وأدوات حياتهم وطمأنينتهم ــ التي هي أهم من كل ذلك ــ في عرض البلاد وطولها يوميا، بل لحظيا، ما هي في نظر السلطات إلا "حوادث" تافهة لا تستدعي المواجهة والمتابعة، ولا تستحق الذكر والتسجيل كما تسجل حوادث الطرق أحيانا وتذاع بها بيانات دورية مشكورة.

طوال السنوات الأخيرة تزداد عمليات الحرابة والتلصص وتفتك بحياة من يتعرض لها ويحاول حماية نفسه أو ماله. في حين يتراخى ويضمحل اهتمام السلطات بها؛ حتى بات هذا الأمر من أبرز جملة المتناقضات التي تعصف بجهود الدولة وبهيبتها وجوهرها نفسه.

أليس من التناقض أن يتبجح ساسة الحكومة بتقوية الجيش الوطني وزيادة قدراته في مواجهة عدو خارجي "مفترض"، في الوقت الذي يعاني المواطنون في الداخل من رعب ونهب اللصوص، أي من عدو وعدوان داخليين واقعيين؟.

أليس من التناقض أن تنتقي الدولة فرقا من العسكر والأمن ــ بكافة أفرعه ـــ وتنفق على تدريبها وتجهيزها بذلك السخاء والعناية للأغراض السياسية فقط (القمع، والمخابرات، والحراسات الرئاسية...) في حين تترك الأمن العمومي لبضع مفوضيات شرطة قليلة لا تكفي إذا اجتمعت لتغطية أحياء مقاطعة واحدة من نواكشوط مثلا، ولا تتوفر على العناصر البشرية ولا الإمكانات اللوجستية للتجول والمواجهة والتحري. بل إن جهاز الشرطة العمومية بصورة عامة بات في وضعية تثير الشفقة وتجعله أحيانا بحاجة للمساعدة والنجدة أكثر من المواطنين!.

أليس من المتناقضات أن تنشئ الدولة جيشا مستقلا خاصا بأمن الطرق (وهي طرق لا يتجاوز عدد المستهدف منها أربعا مع بعض الطرق الحضرية في نواكشوط ونواذيبو) في حين تظل تلك الطرق نفسها كما هي: أكبر مهدد لأمنها بسبب الرداءة والفناء وسوء الاستخدام، وعدم قدرة هذا الجيش على ردع مستهتر عابث أو ردم أخدود قاتل أو إزاحة مركبة تسد الطريق كله؟!.

أليس من التناقض أن تغير دولة قوانينها بحجة منافسة العالم (تحويل العطلة) وتنشئ منطقة "عالمية" حرة وسوقا للأوراق المالية... في الوقت الذي لا تتوفر فيه على مختبر جنائي ولا حتى على وسيلة لرفع وتحليل البصمات... التي باتت تسجلها (في الحالة المدنية) دون فائدة؟!

ترى كم يكلف إنشاء هذا المختبر الجنائي الحاسم في دفع الجريمة وكشف المجرمين والذي تستخدمه جميع دول العالم منذ آماد بعيدة؟ هل يرجع عدم وجوده حتى الآن إلى قلة المال أم قلة الكفاءات أم فقط قلة المبالاة بجرائم الأمن العام (أمن المواطنين غير السياسي)؟

أليس من أقبح التناقض أن يعلن الساسة أن بلادنا باتت "أكبر" منتج للطاقة من كافة مصادرها، وأنها شرعت في تصدير الكهرباء إلى الدول المجاورة، في الوقت الذي تستمر فيه الانقطاعات الفجائية الكلية والاضطرابات المُتلفة للتيار الكهربائي في قلب العاصمة وفي كل مكان في الواقع، وفي الوقت الذي لا تصل الكهرباء أصلا إلى معظم بيوت سكان أحياء نواكشوط الشعبية، بينما يلف الظلام شوارع وأزقة جميع مقاطعاتها باستثناء بعض شوارع "تفرغ زينه" القليلة؟

ولهذه المسالة، كما ذكرت مرات، صلة وثيقة بأمن وطمأنينة المواطنين (العلاقة بين الظلام والجريمة)، كما أن لتناقضها البارز بعدا آخر وهو أن شركة الكهرباء تجبي من جميع المشتركين لديها (أغنياء وفقراء) رسوما مكتوبة باسم "الإنارة العمومية"، التي لم يعد لها وجود حقيقي!!

 

وبالمناسبة أنصح الذين سيشترون "أسهما" في شركة الكهرباء SOMELEC أن يزوروا بعض مراكزها في مقاطعات: عرفات والرياض وتوجنين ودار النعيم... ليروا الوجه العصري للتناقض والفساد والفشل... وليدركوا أنهم سيستثمرون في أقوى أدوات إهانة وتعذيب المواطنين البسطاء. عليهم ألا يذهبوا إلى مراكز تفرغ زينه، لأنها متعددة ولأن في بعضها مكانا للطابور، بل في بعضها مقاعد قليلة للجمهور، كما أن بعضها ثابت لا يبحث عن منزل متواضع ينتقل إليه دون إشعار!!.

 

أخيرا فإنني لا أعني بهذه المقارنات التقليل من أهمية جانبها الأول الإيجابي فهو مطلوب وجيد مشكور، ولكن شقها السلبي الذي هو سبب التناقض هو الذي يقلل من شأن ذلك الجانب الإيجابي ويزري بصدقيته، بل يظهر قصر النظر وانتهازيته وغياب روح الدولة عن الدولة وعدم ترتيب الأولويات... التي لا يبدو ــ في الواقع ــ أن سعادة المواطن العادي في مقدماتها الرئيسية، ولا في أهدافها الحقيقية.

 

م. محفوظ ولد أحمد

اثنين, 22/09/2014 - 11:24

          ​