عقيدة الجماعة و إيديولوجيا الاعتقاد / د. السيد ولد أباه

مع قيام «دولة الخلافة الداعشية» وصعود التيارات التكفيرية وتيارات التشدد الديني السياسي، أصبح من المُلح التعرض لأشكال العقيدة والاعتقاد في التقليد الإسلامي الذي أُخرج من سياقاته التأويلية الأصلية وغدا يوظف في رهانات الاصطفاف الأيديولوجي والسياسي.

 

وما نعني بموضوع الاعتقاد هو أمران أساسيان ملاحَظان في خطاب التشدد الديني بخلفيتيه السلفية الراديكالية والإخوانية (القطبية): القول بوجود نسق عقَدي مقنن في الإسلام يفصل الحكم في مقتضيات الإيمان الصحيح ويقصي من الدين القول المغاير، والقول ببنية تصورية مكتملة في الدين هي مقوّم الانتماء للكتلة المؤمنة في مقابل مجرد الانتماء الموروث للملة الذي لا يمنح حق الاندماج في الجماعة المؤمنة.

 

والمثير في الأمر، أن العديد من القراءات الحداثية للدين تعزز بطريقة غير مباشرة هذا التصور للهوية العقدية في الإسلام، بالنظر إلى علوم الكلام وأصول الدين والتوحيد باعتبارها شكلت تاريخياً سلطة لتقنين العقيدة السليمة وتكفير ونبذ الرأي المخالف (ومن هنا الاتجاه الشائع للتحامل على الأشعرية التي هي عقيدة مجمل أهل السنة بوصفها بالتعصب والجمود والانغلاق).

 

وما يتعين الانتباه إليه هو أن هذه القراءات الحداثية تأثرت ببعض المقاربات الاستشراقية التي تماهي بين علم الكلام الإسلامي وعلم اللاهوت المسيحي، على رغم اختلافهما الواسع من حيث الهدف والرؤية والمناهج. فمن المعروف أن اللاهوت المسيحي الذي استخدم عبارة «تيولوجيا» theology من القاموس الفلسفي اليوناني هو كما حدده «القديس أوغسطين» العلم «الذي يسمح بتعقل الإيمان» أي يتناول «لغز» الألوهية في عقيدة قائمة على التثليث والتجسد تطرح بذاتها إشكالات جوهرية في تحديد العلاقة بين الإلهي والبشري في شخص المسيح، كما أن من شأن اللاهوت أن يحدد منظوراً خلاصياً للفرد يتوقف عليه الفعل الأخلاقي والنجاة بعد الموت. فاللاهوت في التقليد المسيحي هو إذن المكون الجوهري للاعتقاد ويتصل عضوياً بطبيعة المؤسسة الدينية ودورها في وضع وتحديد مقتضيات التدين، كما أنه من حيث ارتباطه المبكر بالفلسفة اليونانية يقوم على مسلَّمة قدرة البرهان العقلي على الوصول إلى حقائق ذاتية مطلقة في الإلهيات.

 

وما أبعد هذا التصور عن المباحث الكلامية في التقليد الإسلامي الكلاسيكي، وليس اختيار مقولة «الكلام» نفسها اعتباطياً على رغم أن بعض الباحثين يرجعها لاعتبارات ثانوية مثل مركزية إشكالية «الكلام الإلهي» في النقاشات الكلامية أو استخدام المنشغلين الأوائل بهذا العلم لعبارة «الكلام في كذا».

 

فمن الجلي أن عبارة كلام التي استخدمها أساطين هذه الصناعة (مثل الأشعري) تحيل إلى مفهوم الحِجاج والمناظرة أكثر مما تحيل إلى معنى التقنين والتقرير، كما أن عبارة «أصول الدين» التي استخدمت أيضاً لدى أوائل المتكلمين لم تكن تعني أكثر من إبراز العلاقة العضوية بين علم الكلام وأصول الفقه، أي التركيز على الطابع العملي للاعتقاد في مقابل السمة الميتافيزيقية للاهوت المسيحي (أطلقت عبارة الفقه الأكبر على علم الكلام في التقليد الحنفي).

 

ولقد لاحظ أبرز المستشرقين المعاصرين «جوزف فان إس» أن الإسلام -على عكس المسيحية- يولي الممارسة العملية orthopraxie من الأهمية أكثر مما يولي صحة العقيدة بالمفهوم الذاتي في الوعي والضمير، مستشهداً بالقسيس الدومينيكاني «ريكولدو دي مونتروتشه» الذي زار الشرق في القرن الثالث عشر الميلادي وهاله أن المسلمين ليست لهم عقيدة خلاص بل يكتفون بمجرد نطق الشهادتين للاندماج في الأمة ويعتبرون أن عموم أهل القِبلة ناجون في الآخرة.

 

صحيح أن الدراسات الكلامية لم تكن تقل رصانة فكرية عن المباحث الفلسفية التي لم تكن مقطوعة الصلة بها، إلا أن هدفها لم يكن تحديد العقيدة العقلية المفروضة في الإلهيات، ولذا فإن خصوم المتكلمين تاريخياً هم أطراف ثلاثة: أصحاب الفِرق الذين أرادوا حصر الإيمان في طبيعة الالتزام العملي، وبعض الاتجاهات السلفية التي أرادت تقنين المواقف العقدية انطلاقاً من النص والأثر، والفلاسفة الذين أرادوا تأسيس حقل الإلهيات الإسلامية من منظور الميتافيزيقا اليونانية.

 

وإذا كان المتكلمون المتأخرون قد تبنوا تعريف علم الكلام الذي بلوره الفارابي (من منظور قدْحي في الأصل) باعتباره العلم الذي يدافع عن العقائد السُّنية والرد على «المنحرف والمبتدع» (الغزالي والأيجي وابن خلدون...)، فالغرض ليس التقنين العقلي للاعتقاد، وإنما حفظ الدين في هويته الجماعية بكبح المحاولات التي قامت لبناء لاهوت إسلامي بحيث تضيق إطار الانتماء للأمة وتحول الدين إلى بنية ميتافيزيقية وهو اتجاه ملحوظ لدى الفرق التي واجهها أهل السنة.

 

ومن هنا ندرك أن الإشكال الكبير الذي واجه المتكلمين هو حسم العلاقة بين مقتضيات التوحيد التي تدفع في اتجاه أقصى إلى نمط من اللاهوت السلبي (نفي الصفات كما عند الجهمية والإسماعيلية) ومقتضيات القدرة والفاعلية الإلهية المطلقة التي هي في الوقت نفسه التأسيس العقَدي لفاعلية الإنسان من حيث أبعاد الاستخلاف والأمانة (على رغم الإشكال المعروف المتعلق بخلق الأفعال). فالمبحث الكلامي إذن لا يتعلق بالذات الإلهية نفسها التي لا يحيط بها عقل وإنما بالصفات الإلهية من حيث حضورها في النص والعالم، ومن هنا فإن الكلام ينتهي في آخر المطاف إلى مبحث تأويلي لإدراك مرامي الشارع في الأخلاقيات والشرائع، ومبحث طبيعي في النظر للموجودات في ماديتها التجريبية باعتبارها خالية من كل سِمة مفارقة.

 

إن هذا الرفض لكل لاهوت عقلي هو الذي يسمح بتحويل الإيمان إلى سلوك انتمائي للجماعة، بحيث تكون العقيدة السليمة هي الانخراط في المنظومة القيمية الجماعية وإقامة الشعائر المشتركة، أما التجربة الدينية الذاتية فموضوعها هو علم التصوف والأذواق الذي هو من شأن الخاصة ومن «المضنون به على غير أهله» بلغة الغزالي.

 

جمعة, 17/10/2014 - 11:08

          ​