ثقافة الطفل العربي هي الحل

يتساءل البعض اليوم في خضم هذه التراجعات العربية عن السبيل الأمثل للخروج من الأزمة، والذهاب نحو الغد إنسانيا وحضاريا بشكل أجمل، وليست هناك سوى إجابة واحدة لا تقبل الجدل أو الخلاف وهي أن المستقبل هو الطفل. فالطفل العربي الذي يعيش اليوم ـ للأسف- ظروفا أقل ما يقال عنها أنها قاسية، قد تؤثر على مستقبله وعلى مستقبل المنطقة كلها بإنسانها وجغرافيتها وتاريخها، وذلك لأن الطفل هو لبنة البناء، والسبيل الوحيد للذهاب للغد بفداحة أقل، ولذا على الجميع من منظمات ومؤسسات ومجتمعات وأفراد الإنتباه جيدا لمستقبل هذا الطفل.إن توفير جو مناسب للحياة الطبيعية من حيث الإمكانيات المادية والمعنوية في الأسرة؛ كالسقف والطعام، والأمان، وغيرها من الحاجات الأساسية للإنسان، وتوفير الحد المناسب من فرص التعليم، والتثقيف للطفل العربي الذي يعيش في وطنه، أو ذلك الذي شرّد منه بكل الطرق الممكنة، هو صمّام الأمام لمجتمعات تتهاوى في ظل كل هذه التمزقات السياسية والدينية. كما يجب علينا أن ننتبه كي لا يتشرب أطفالنا ثقافة العنف والدم والموت المجاني باسم الله أو باسم سياسة أو دين أو شخص، لأن ذلك يعني جيلا ممتدا من العنف والدمار والخراب.

 

فمن المعروف أن ثقافة الطفل هي إنعكاس مباشر لثقافة المجتمعات وروحها، وتمدنها، ووعيها، ورقيها أو غير ذلك.إن ثقافة الطفل ـ ببساطة ـ هي ثقافة الإنسان الشاملة في كل الجوانب وبكل الممكنات المتاحة قلت أو كثرت، وبناء هذه الثقافة يعني بناء منظومة إنسانية جمعية لهذا الطفل تتضمن:ـ تنمية الجوانب الفكرية أو العقلية: وتُعنى بالمعرفة، وطرق اكتسابها.ـ تنمية الجوانب الروحية والنفسية: وتعني بترقية الحواس والمتعة والتسلية والفنون.

 

ـ الجوانب السلوكية والحياتية، وتعنى بطرق التعامل مع الناس في الحياة العامة، وأساليب الكلام، وجوانب التربية والرقي والتهذيب والذوق.ولابد لتحقيق هذه الثقافة من العمل في الاتجاهات الثلاثة، من خلال كل الجهات التي تخدمها محلياً أو عالمياً، فعلى المؤسسات التعليمية أو من يقوم بدورها، أن تهتم بتنمية الجوانب العقلية والتعليم بأعقد الطرق أو بأبسطها، وبشكل رسمي أو غير رسمي وبشكل فردي أو جمعي، كما على المؤسسات الثقافية والمكتبات، ودور الفنون كالمسرح والسينما، والإعلام بجميع برامجه وفضائياته والمثقفين، وكل ذي وعي ورسالة؛ الاشتغال بجد على تنمية الجوانب الروحية والحياتية بتعليم المهارات الإنسانية، وتقديم البرامج الداعمة والمثقِفة، وتقديم النماذج المحتذى بها باستقدامها من التاريخ أو من الحضارات الأخرى، وتصحيح السلوكيات الخطأ نظريا وعمليا.وينبغي على الأسرة تحمل الدور الأكبر في بناء وعي هذا الطفل، وضمان حفظ إنسانيته وحمايته بأقصى ما تستطيع، ثم يأتي دور المجتمع بكل شرائحه ومؤسساته وأفراده لحمل هذه المسؤولية، كل حسب طاقته، وحسب الإمكانات المتاحة، والأدوار المهيأة لها. فعلى جميع الجهات التي يقع على عاتقها مسؤولية تثقيف الطفل أن تقوم بأدوارها على أكمل وجه، و ألا تتنصل من المسؤولية بحجة أنها غير معنية بهذا الدور بشكل مباشر، أو بحجة ضعف الإمكانات المتاحة، لإننا لابد أن ندرك الخطر من عدم تعليم الطفل وتثقيفه في هذا العصر الذي يشكّل تحديا حقيقيا.

 

ويجب أن لا نكل هذه المسئولية للبيت والمدرسة فقط؛ لأن الكثير من الأسر دون مستوى ثقافة العصر، ودون مستوى الإمكانات المطلوبة لمواكبتها، هذا إذا وجدت هذه الأسرة بشكل متكامل وطبيعي أصلا. كما أن العديد من المدارس لا تملك حتى مكتبة لتثقيف هذا الطفل، خاصة في مراحله الأولى التي يكون فيها بداية الإدراك لقيمة الكتاب ومعنى الثقافة. هذا ناهيك عن أطفال لا يجدون البيت أو المدرسة بفعل الفقر أو الحرب.ولذا يجب أن تكون هناك دائما جهة مسؤولة مسؤولية واضحة ومباشرة عن الطفل وبرامجه (وزارة أو لجنة أو هيئة) وطنية أو عالمية، بحيث تكون المظلة الأشمل التي ينبغي أن تستظل تحت فيئها كل برامج الطفل التي يحتاجها، وتعنى بتثقيفه دينيا وصحيا وحياتيا ومعرفيا. وهي حاجات ملحة وضرورية لطفل هذا العصر، ويجب أن تقدم من قبل مختصين (موظفين أو متطوعين) يمتلكون المعلومة والقدرات النفسية والعلمية التي تؤهلهم لمخاطبة الطفل، وإقناعه بأكثر الوسائل إثارة وبهجة.كذلك يتوجب توفير الأنشطة والبرامج الفنية والترفيهية كالأفلام والمسرحيات وغيرها من احتياجات متعوية وترفيهية، وتهتم بأدب الطفل المقروء (مجلات وكتب)، والمرئي والمسموع (برامج تلفزيونية، وإذاعية، ومسرحيات، وأفلام سينمائية) وكل مقتضى معرفي يمكن أن ينمي ثقافة السؤال لدى طفل هذا العصر الذي تلدغه الأجوبة، وتحاكمه الكونية، وتجلده المعرفة في تسارعاتها المرعبة، وتستلبه التقنية بكونها المتسع والكبير الذي يختصر ذاته في جهاز صغير.

 

وقد لا يكون لديه من المربين من يساعده على فهم وشرح كل هذا التسارع والحرية والوعي في العالم، وكل هذه الاضطرابات والكبت والقهر في عالمه، وكيف يستطيع الموازنة بين كل الثنائيات التي تحتاج التوفيق بينها كالعلم والدين، والقيم والتقنية والحرية والمسؤولية وغيرها من ثنائيات الوجود التي تفرض نفسها كثيرا وعميقا في هذا العصر.كما أن تنمية ثقافة السؤال وعدم الاعتماد على الأجوبة الجاهزة هي الأهم، لبناء جيل قادر على وضع علامات استفهام والبحث لها عن إجابات تخصه وحده، ليست إجابات قطعية وجاهزة أو متوارثة، لأن أجوبته ستختلف بالضرورة عن أجوبة آبائه وأجداده، وعن أجوبة الآخر القريب أو البعيد.إن صناعة الغد هي في بناء إنسانه وتزويده بكل المهارات والوعي والثقافة التي تمكنه من الذهاب للمستقبل، وتغيير هذا الواقع المرعب الذي نعيشه (جهلا وفقرا وقيدا) لواقع أجمل وأكثر اتزانا وحرية وجمالا، وهو التحدي العربي الكبير والجدير بخوضه من قبل كل من يستطيع، وكل من يعتقد بإمكانية التغيير، وضرورة الحلم فردا كان أو مؤسسة في كل بقعة من الوطن العربي الكبير.كاتبة عُمانية

فاطمة الشيدي

أحد, 19/10/2014 - 10:05

          ​