ماذا حققت الحركة القومية العربية فى موريتانيا ..؟

كتبته في خلوة ماضية ردا على حملة تطال حركة القومية العربية في موريتانيا، وسأنزع منه مايتعلق بنقد خصوم الحركة بحدة تماشيا مع جو التهدئة العام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

((ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين))

 

"القومية العربية"..ماذا حققت في موريتانيا.. وماذا حقق "خصومها"..؟؟!! (الحلقة 1)

 

في البداية لاأحد يخجل من نقد وتقييم الافكار..فالنجاح والاخفاق سنن كونية مرتبطة بنقص الانسان وطبيعته المختلفة عن الكمال الإلهي، كما ان الكثير من مسارات التجارب تنبع من "الصح والخطأ"..ان الافكار وليدة الكائن الانساني الناقص نفسه، بغض النظر عن الدخول في جدلية اسبقية "الوعي والمادة"....

كما أن هناك فرق بين الأفكار -كل الافكار- كنظريات اُنتجت في القوالب المجردة، واحتضنها الدماغ بصغتها الخام، وكانت تختمر فيه بمثاليتها، ورومانسيتها الحالمة.. وبين تطبيقها واقعا معاشا..فرق بين اختراع الفكر السياسي في الصورة الامثل وبين تنزيله من برجه العاجي الى عوالم القُطرية والدولة الوطنية الحديثة التي انبلجت من رحم الاستعمار...

 

وحتى ندخل في صلب الموضوع، -لان الاسترسال ربما سيقودنا الى تاليف كتاب كامل، ربما لانملك من الوقت ولا القدرة المعرفية لتصنيفه-، فقد نشطت في موريتانيا تاريخيا 3 اتجاهات فكرية رئيسة:

-الاتجاه الاسلامي (حركة الاخوان المسلمين كاقوى اتجاهاته)

الاتجاه القومي العربي(بشقيه الناصري والبعثي)

-الاتجاه الماركسي (الماوي)..

بقي الاتجاه الليبرالي خجولا متلعثما، بلا ملامح ولاتنظيم ولاهوية، لذلك لايستحق ان يصنف كتيار فكري فاعل في الساحة..

 

1-الفكرة الاخوانية:

حين تأسست حركة الاخوان المسلمين سنة 1928 في مصر على يد المرحوم حسن البنا، كان لديها هدفان اساسيان معلنان: اولا توحيد الامة الاسلامية واحياء الخلافة الحديثة عهد بالسقوط، وثانيا جعل النظام الحاكم في البلدان الاسلامية بقوانينه وتشريعاته واقتصاده -او في الدولة الواحدة المنشودة-منبثقا من الشريعة الاسلامية، ثانيا(تطبيق الشريعة الاسلامية)..كانت هذه هي الاهداف المعلنة للتيار الاسلاموي، ناضل من اجلها واصطدم مع الانظمة...

 

2-تنزيل الفكرة الاخوانية على النضال الواقعي القُطري:

إذا حاكمنا الاخوان المسلمين بهذين الهدفين ربما سنعتبر ان الحركة من افشل الحركات في التاريخ، فلا الامة الاسلامية توحدت، ولا الطرح الموضوعي وامتلاك الوعي اصلا يسمحان بذلك..ان جمع السنغالي مع الماليزي مع المصري تحت رداء دولة سياسية واحدة، يبدو أقرب الى اثارة التسلية لعدة اسباب لاداعي لذكرها..اما الهدف الثاني المتعلق بالشريعة، فلم يتحقق.. او على الاقل لم يتحقق بالصورة التي كانت تعلن الجماعة انها تسعى لها..

ان الدساتير في جميع البلدان الاسلامية، تتبنى الشريعة كنص مرجعي مكتوب،لكنها بالمعنى الحديث للدولة الوطنية علمانية في جوهرها...وحين وصل الاخوان الى الحكم زادوها علمنة من خلال التأصيل "للمدنية"..لم يطبق الاخوان الحدود..ولم تلغ المعاملات الربوية..ولم تاتي بصيغ اسلامية جديدة..وكانت نظرتهم الاقتصادية مجرد نسخ باهتة من اقتصاد السوق..

مع ذلك لااحد موضوعيا يستطيع الحكم على هذه الحركات بالفشل النهائي، بل على العكس، فقد نجحت في بعض الاقطار من خلال قوة الحضور والفعل السياسي والتنظيمي...

على الصعيد الوطني الموريتاني مثلا، هل نستطيع ان نحكم على حزب"تواصل" بالفشل مثلا؟، لان موريتانيا لم تستطع ان تتحد مع "باكستان" مع "نيجيريا" تحت دولة واحدة يرفرف عليها علم التوحيد ويقودها خليفة في اسطنبول او القاهرة او بغداد..يبدو الامر اقرب للسخف...وهل اضاف نضالهم وتأثيرهم حتى لانقول حكمهم طابعا اسلاميا للتشريعات...مع ذلك لم يقل احد لتواصل ان افكاره غير موضوعية وغير واقعية ولاتصلح لموريتانيا لان منابعها مصرية وهدفها توحيد العالم الاسلامي ...لكنها فقط قيلت للقوميين العرب لماذا ياترى؟ سنرى لاحقا..

 

-الفكرة الماركسية:

تاسست الفكرة الماركسية كرد على التوحش الفردي الفظيع الذي قادت اليها الثورة الصناعية اوروبا، كانت اوروبا حينها عبارة عن لوحة من الاختلال البشع رسمها تغول الراسمالية مقابل حرمان رهيب وضياع مادي شبه كامل لطبقة واسعة من العمال ..سبقت ماركس وانجلز عدة محاولات للجم الجشع الفردي اخذت صيغا واشتراكيات أطلق عليها مثالية او طوباوية، لكنها لم تصمد..جاء ماركس ورفيقه فوضعوا النهج الذي اعتبروه"علميا" للاشتراكية، قاما بتحريك مادية "فيورباخ"الساكنة..وخلطوا عليها طريقة هيجل في الجدل لتنتح لنا الجدلية المادية، التي تم تطبيقعها على حركات المجتمعات فجاءت النادية التاريخية..

تسعى الماركسية الى خلق مجتما شيوعي تنتفي فيه الدولة وتكون الحاجة والجهد هما مصدر الاخذ..في فكرة حالمة أقرب للجنون..

 

-تنزيل الفكرة على الواقع القطري:

اندلعت الثورة البلشفية لتجد نفسها في واقع مختلف عن النظرية..كانت روسيا بعيدة من مرحلة النضج الرأسمالي التي اشترطها ماركس لحدوث الثورة..

جاء لينين بشعاره المعهود والذي صار شعارا للماركسية اللينينية(تحليل ملموس لواقع ملموس)، انتج لينين ثورة اشتراكية لكن في بلد واحد له خصوصية قومية وثقافية، ووضع اسس منهجه الاجتهادي..

حين مات لينين خلفه جوزيف استالين..اضاف استالين اجتهادات جديدة تمثلت في تطبيق مايعرف بنظرية "الاشتراكية في بلد واحد"، فثارت ثائرة " الماركسي العنيد "اتروتسكي" المتمسك بالنص الحرفي للماركسية..اعتبر الرجل ان ستالين انحرف عن النهج والنظرية، وبدا يشحذ سيوفه لمواجهة الانحراف الستاليني...انتهى الصراع الستاليني التروتسكي "ديالكتيكيا" بحوار الاظافر..مات الاخير مقتولا في شقة...تحول الى مجرد ثائر او حالم او خائن، يعيش على مراقصة الخيال في الذاكرة العالمية، ان افكاره لم تنتج غير الجنون او منازلة الرصاص الطائش...

اخذت الماوية في الصين زمام المبادرة لتجديد الفكر اللينيني، فوجدت واقعا مغايرا عن الواقع الاوروبي، وعن الواقع السوفييتي، واقعا فرضته ظروف الاختلاف "القومي" الثقافي والاجتماعي بين البلدين....

 

-الفكرة القومية العربية:

اذا كان بعد الدارسين يرى ان استيقاظ العرب بدأ من عهد صلاح الدين الايوبي، فلاشك ان هناك احداث ومنعطفات ساهمت في هز جذع نخله ليساقط رطبا على المنطقة..

شكلت الحروب الصليبية و"الاجتياح التتري" والاستعمار العثماني، محطات بارزة في بلورة وعي قومي عربي بدأ في النضج.. اكتشف العرب هويتهم ووجودهم القومي الذي تطور عبر مئات وآلاف السنين،من الطور القبائلي الى الشعوبي الى الامة المكتملة الخصائص بمختلف اعراقها ودمائها وجيناتها، صهرتها بوتقة الزمن والتلاقح الحضاري، ووحدتها الثقافة واللغة والعقيدة واستشعار الخطر والمصير المشتركين..ثم جاء الالتصاق الجغرافي وغياب الحدود الطبيعية، ليصبغ رونقا عجيبا على تلك الحقيقة..

تدعو القومية العربية إلى وحدة العرب كشرط أساسي لمحاربة التخلف والتقهقر وبعث المشروع النهضوي العربي وذلك بمقومات لاينكرها أحد...هذه المقومات التي تجمع كل الصيغ والتعريفات التي قيلت عن مفهوم الامة والقومية في مدارس العالم الاجتماعية الحديثة (لغوية كما يرى الالمان..مصيرا مشتركا كما يرى الفرنسيوت..ثقافيا اقتصادي كما تدرى السوفييت ..)..

حتى على صعيد الواقع والمنطق..يبدو توحيد الجزائري مع والمصري اكثر منطقية من كل الاطروحات الاممية (دينية عاطفية ام ماركسية مجنونة)..ان القيام بأي جولة في تونس او الرباط او بيروت او جدة او القاهرة سيرى ان كل اختلاف هو مختلق..حتى الاختلاف الالسني البسيط ممثلا في اللهجات الذي يسعى البعض للتدليل عليه، لا يختلف عن التمايز المناطقي الالسني بين اهل الكبلة او اهل الشرك او اهل الساحل في موريتانيا، داخل المجتمع البيظاني الواحد

 

تنزيل الفكرة على الواقع القطري:

لم ينجح القوميون بعد في لململة الشتات العربي،في دولة واحدة فاقتسموا مع التجارب الفكرية الاخرى مرارة الاخفاق، رغم انهم اقرب الحركات لتحقيق حلمهم.. ومع ذلك حدثت عدة محاولات جريئة لجعل التعاون العربي ممكنا سواء على المستوى السياسي او الاقتصادي او الثقافي او العسكري..

 

في موريتانيا..مالذي حققه التيار القومي؟

 

على الصعيد القطري نجح القوميون في ترسيم اللغة العربية دستويا فصرنا نُنازل أي مستهتر باقدس وثيقة مدنية..ان ترسيم اللغة حدث ايضا على المستوى الشعبي والواقعي..

لقد نازل واد التيار القومي زنازين الظلام لنحصل على اكتساح مريح للغتنا في الوقت الراهن رغم خذلان الرسمي..

ان الفرنسية الآن تعيش عزلة قاتلة، يفترسها الملل وحيدة تعانق روابي التكدس المحنط، وتخاتل ازرار لوحات الاجهزة في الادارات الممسوخو المحنطة المتعفنة..ان الفرنسية لاتخرج عن نطاق بيان اوتعميم عدا ذلك لاوجود لها....انها ليست في الشارع..ليست في المقهى..ليست في الفضاء الافتراضي..ليست لغة الصخب الفكري والضجيج السجالي ...كل ذلك تكتسح فيه العربية بارتياح شديد بفضل نضالات التيار القومي..

على المستوى السياسي صارت موريتانيا جزء من الوطن العربي، تراكمت نضالات القومية الاولى قبل نسختها الحداثية،..من النهضة واحمدز ولد حرمه الى النسخ الحداثية الاخيرة، تراكم نضالي عروبي هوياتي تمخض عنه انضمام موريتانيا الى الجامعة العربية..اذا كانت الجامعة لم تقدم الكثير لقضايا العرب فاننا كموريتانيين استفدنا كثيرا من ذلك الانضمام على المستوى الاقتصادي والثقافي..

فاقتصاديا كان للتمويلات العربية دور كبير من إخراج البلد من تحت الارض الى فوقها، هذا البلد الذي اعلن استقلاله تحت خيمة من الوبر او القماش، لم يترك فيه "ربهم الاستعماري" اي عش لايواء الطيور..

انصبت اموال العرب وخيرات العرب.. مستشفيات.. طرق..مؤسسات.. بنوك..تلفزيون..

على الصعيد الثقافي استفدنا كثيرا من المراكز الثقافية العربية (المصرية والعراقية والسورية)...تطورت حركتنا الادبية والثقافية وخرجت من ظلام البدو وكهف الارتحال، الى النور واحتكت بالعالم...تعرفنا على الاتجاهات الفكرية والادبية والفلسفية الجديدة في المشرق..شعراؤنا طوروا من لغتهم وادبهم واسلوبهم..تمكنوا من تصنيف انفسهم هل هن رومانسيون ان كلاسيكيون ام من مدرسة الشعر الحر..وذلك في مرآة المقارنة مع رواد المشرق..تعرفوا على نزار قباني..محمود درويش..نازك الملائكة بدر شاكر السياب ..طه حسين.....

صبت الدول العربية الكثير من ودالاساتذة العرب ليعلموا الناس و..فتحت الجامعات العربية ابوابها لتخريج عشرات ومئات الاطباء والمهندسين من تونس والجزائر ومصر وسوريا والعراق ، بدون تمييز نازك المل...تلاقحت اوتار عودنا مع الاشقاء فتطورت الموسيقى...اختلط في الانسان الموريتاني بين الثقافة الافريقية الجميلة(بدراعتها وبعض ووجباتها) وبين الثقافة العربية المشرقية..

 

(...................)

االأستاذ احمد ولد حمنيه

 

 

أحد, 02/10/2022 - 10:43

          ​