الأرض والنبات البشري

بعدما يألف الطفل وجوه أهله، وأشياء منزله، يميل إلى تحطيم كلّ رتيب، كعلامة على استغرابه لمألوف الكبار. وينتقل من هذه المرحلة إلى الحس بالخارج، وأول ما يحذبه إليه: سقوط الأمطار، وانتشار الأضواء، وزحام الناس والحيوان. هنا يشتد انتباهه إلى ما فيه من قوى نامية ومن قوى غاذية، فيحاول اصطياد كل طائر، والقبض على كل متحرك، لأن شهوة اللمس تنامت بعد شهوة البصر ومعها. بعد أن يألف العاديات من مرئيات الحي يرمي عينيه إلى الفوق بتأثير لمحات البروق، فيقلّب نظره في السحاب والنجوم.هنا تشبّ شهوة السمع نتيجة شهوة النظر واللمس، وأول ما يفزعه رؤية الأمكنة الخالية وما يكمن فيها من أصوات في تصوره، فيتساءل بلا لغة: ماذا يملؤها، ومن يسكن تلك الأودية والجبال والشعاب؟هنا تتزايد رغبته إلى المعرفة بالمجهول دون أن يحس أنه يجهل، ودون ان يعرف أنه يريد المعرفة، عندها تلبي حكايات الأمهات والجدات حنينه إلى المجهول، وتصبح هذه الحكايات أول مكونات ذهنيته، وأول تفتّح أصالته إذا كان فنّي المزاج. ولعل أنبه الشعراء وأرهفهم حساسية تمتعوا بأمهات حكّايات، أثرن أخيلتهم من أول تبرعمها، ولا يعرف قيمة تلك الحكايات المثيرة إلا المحللون النفسيون، أما الذين يجهلون أصول التربية النفسية ومكونات الخيال الفني فيعتبرون هذه الحكايات الأمومية مجرد ثرثرة عجائز لأطفال، بل إن بعض أهل بلادنا يعطيها أوصاف التحقير بتسميتها «حزاوي»، كما يسميها بعض الآخرين «حدوثة»، وكلا التسميتين إشارة التهوين من الحكايات الشعبية، مع أنها تصورات الشعب وأمانيه ومكابدته، بالإضافة إلى أنها تملك من العناصر الجمالية ما يملك الخيال المثقف، وبالأخص إذا رُويت بلغتها الساذجة وجوّها الأسماري. وقد لاحظنا الأرض في الحكايات: كيف تنهدت بأبدع الإثارات، وانعكس عليها تنهد الإنسان بأعظم الأشواق والآمال. ولعل المرأة ثانية الأرض، أو الأرض الأولى للأرض، لانها كالتربة تستقبل وتنبت ويتحول نباتها البشري إلى طاقة تفجر كنوز الأرض. الفرق أن المرأة تشعر غيرها بمقاساة غثيان الحمل وأوجاع الولادة، على حين تصارع الأرض غثيانها وأوجاع ولادتها في أعمق صمت وأخصب هسيس.لهذا استنطقت الحكايات الشعبية صمت الأرض كما يحسها الإنسان، وربما كما تحسها التربة، ميزة الإنسان أنه يتصور ويبوح عن تصوره كحقائق أو كعرف حقيقي. ولعل الرجل لما يتمتع به من ذكورة أبعد تصوراً لوفرة إرادته وعجزه عن كل ما يريد نتيجة طول تجاربه مع الأحياء والحياة، فكما تصوّر هواجس الأرض واستثمر صمتها، تصور المرأة واستثمر صبرها، باعتبارها مزرعة الرجال كما أن الأرض مزرعة الغلال. فكما أن الأرض تعطي في صمت، فالمرأة تعطي في صبر، حتى أنها تتقبل تصورات الرجال لها كمسلّمات من كُملاء في نظرها، فتقص ما نسجت عنها الحكايات وكأنها تحكي عن غيرها. تسرد الأم لطفلها غرائب مكائد النساء كما تقص عليه خوارق الجنّ، دون أن تفطن أنها تكوّن في طفلها أحكاماً مسبقة على زوجته وبناته، وعلى أمّه وجدّاته، فالمرأة في كلّ الحكايات الشعبية غابة مكائد وسراديب احتيال.فمن أين نشأ هذا التصوّر؟لعل أهم مناشىء هذا التصور هو شعور الرجل الريفي بعجز المرأة عن القتال، ثم شعوره باضطرارها إلى الزواج بعد سنوات، وهذا الانتقال إلى الزوجية ينقلها إلى بيت آخر أو قبيلة أخرى، فتنتقل من بنت فلان إلى زوجة فلان وأم فلان. وعندما يشتجر القتال تقاتل المرأة بطاقتها الناقصة إلى جانب زوجها وبنيها في الغالب حتى ولو كان في الجبهة المقابلة أبوها وأخواتها.لهذه الأسباب وغيرها صوّرت الحكايات المرأة مجموعة شرور ونقائص لا تلمح فيها إلا مزية الإنجاب، وعلى رغم اشتراك المرأة في الرعي والسقي والعلف والحرب على أي وجه، فإنها تعمل كالأرض في صمت صابر، وإذا عبّرت فبالتنهد والدموع، لأن الرجل يحكمها كجارية، عليها أن تعمل بمقتضى الأوامر والنواهي الصادرة عن الأب أو الزوج أو الأخ، وقبلت المرأة كل هذا عن اختيار اضطراري أو عن اضطرار اختياري، أو عن اعتياد وراثي.

فقرات من «المرأة في الحكايات الشعبية»، ضمن كتاب «فنون الأدب الشعبي في اليمن»، 1978.

سليل زرقاء اليمامة

 

هو شاعر اليمن الأبرز، والأعلى فصاحة وإعجازاً، على صعيد اللغة وال وتنوّع الموضوعات والإيقاعات، من جهة أولى؛ لكنه، من جهة ثانية، ذلك المتمرّس بتاريخ اليمن وفنونه وثقافاته، الجمهوري ـ والليبرالي، بالمعنى الأفضل للكلمة، بمصطلحات عصرنا ـ من جهة ثالثة؛ والرائي، وهو الضرير منذ سنّ السادسة، الذي استحقّ الانتماء إلى إرث زرقاء اليمامة، من جهة ثالثة؛ فضلاً عن كونه، أخيراً، ذلك النموذج اليمني الرفيع من أمثال بشار بن برد وأبي العلاء المعري، ممّن قالوا شعراً رأى المرئيات لا كما يفلح في رؤيتها المبصرون.ولد عبد الله البردوني (1929ـ1999) في قرية البردون، شرق مدينة ذمار، وأصيب بمرض الجدري وهو في السادسة من عمره، ففقد بصره.

 

لكنه واظب على الدراسة، وأبدى نزوعاً جارفاً نحو نظم الشعر، قبل أن ينتقل إلى صنعاء فيدرس في جامعها الكبير، ثمّ دار العلوم، التي تخرّج منها حاملاً إجازة في العلوم الشرعية. وحين بدأ ينشر الشعر، أو يقوله في المحافل العامة، صارت قصائده بمثابة منشورات سياسية تحرّض على مقاومة العسف والطغيان، وتحثّ المثقف على اتخاذ مسافة نقد واضحة من السلطات، والانحياز على قضايا الشعب وهمومه وهواجسه. وعلى نحو ما، كان البردوني تقدميّ المزاج، وأقرب إلى شخصية المثقف العضوي، إلى جانب دفاعه الدائم عن الحريات العامة وحقوق المراة واستقلالية المجتمع المدني. وكان، في جلّ هذه المواقف، لاذع النقد ومرير الهجاء، فتُذكر له هذه الأبيات الشهيرة في نقد توقيع القاضي عبدالله الحجري على تجديد اتفاقية 1934، والتي ألقاها البردوني في حضرة القاضي نفسه: «فظيع جهل ما يجري/ وأفظع منه أن تدري/ وهل تدرين يا صنعا/ من المستعمر السري/ غزاة لا أشاهدهم/ وسيف الغدر في صدري».

 

من حيث الشكل، ظلّ البردوني وفياً للقصيدة الكلاسيكية وعمود الخليل، لكنّ موضوعاته لم تكن حداثية وطليعية، فحسب؛ بل كانت تشتغل على تجديد وئيد، ولكنه منهجي وطيد، للعناصر الكلاسيكية. مجموعته الأولى «من أرض بلقيس» صدرت سنة 1961، عن المجلس الأعلى للآداب والفنون، القاهرة، وكانت جهة النشر تلك دليلاً على علوّ كعبه المبكّر ونضجه الفني. وحين رحل الشاعر كان قد أصدر 12 مجموعة، وترك عدداً كبيراً من القصائد والمخطوطات. أما الجانب النقدي والفكري، فقد أسفر عن مجموعة كبيرة من المقالات والمؤلفات، لعلّ أبرزها: «رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه»، «قضايا يمنية»، «فنون الأدب الشعبي في اليمن»، «اليمن الجمهوري»، و«أشتات».

 

نصّ: عبد الله البردوني

أحد, 23/11/2014 - 01:38

          ​